غزة | اذا اردت ان تقف على جملة «كتب لي عمرا جديدا» بعد موت محقق، أسأل المواطن محمد المصري الذي نزح من قريت بيت لاهيا وسط الظلام الدامس هو وأسرته المكونة من سبعة افراد، والقذائف تلاحقهم، وهو يقودهم حمار كهل لا يقوى على المسير، ويتعثر في تربة البلدة الزراعية.
حمل الرجل بضعة فرشات بالية واغطية صيفة على ظهر العربة واتجه جنوبا الى قلب مدينة غزة، عله يظفر بموطن آمن يستقر فيه هو وعائلته، وقد انتهى به المطاف مع الساعة الثانية فجرا على باب مركز ايواء يعود لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الاونروا.
حل المواطن المصري ضيفا على أسرة أخرى سبقته بالنزوح؛ تقيم في فصل دراسي داخل المدرسة الواقعة في حي النصر غرب مدينة غزة، فجالسها وأخذ كلا الاسرتين يحدث الاخر عن فصول المعاناة التي عايشوا قبل ان يتمكنوا من اللوذ.
بعد أخذت الأسرة نفساً عميقاً واستراحت من عناء الرحلة المرعبة، خصوصا وأن الطيران كان يحلق فوق رؤوسها على ارتفاعات منخفضة، وجدت نفسها مضطرة تحت وطأة نقص الفراش ان تجمع كل اثنين من الابناء فوق وسادة واحدة.
يقول النازح المصري وهو في العقد الرابع من عمره، إن زوجته فقط اصطحبت مصاغها وبضعة أموال كانا قد ادخارها، واضطروا للخروج مسرعين بعد ان افزعهم الاحتلال بالمكالمات الهاتفية المتوالية للمطالبة بضرورة اخلاء المنزل.
يشير المواطن الى أن اطفاله ازادوا خوفا في الساعات الأخيرة قبل النزوح، جراء إلقاء الطائرات الحربية بالونات حرارية فوق مسكنهم المكون من دورين وبشكل مكثف، بالتزامن مع اطلاق البوارج الحربية القذائف باتجاه الأراضي الفارغة في محيط سكنه.
ويقول «مضينا في طريقنا تحت الضربات، وحولنا عائلة متقطعة كانت تسير مشيا على الأقدام، لم تتمكن وسائل النقل أو سيارات الاسعاف أو حتى الصليب الأحمر من اخراجنا، لهذا اضطررننا للمجازفة بأرواحنا تحت الطيران الذي كان يغير بين حين واخر دون ان نعرف مواقع الاستهداف».
الشيء نفسه تقريبا حدث مع المواطنة فائزة أبو حليمة، تلك الفلسطينية الخمسينية التي تركت منزلها في قرية العطاطرة شمال القطاع غزة تحت تهديد القذائف المدفعية واتجهت الى مركز ايواء وسط المدينة، في جو مشابه تماما للمشهد النزوح الذي عاشته قبل أكثر من خمس سنوات (حرب 2009) وغادرت منطقة سكناها تحت وهج النيران برفقة اسرتها هربا من الموت الذي تنشره آلة الحرب الاسرائيلية فوق المناطق الحدودية للقطاع.
لم تسعف فائزة اقدامها في حمل كثير من الاغطية والفراش اثناء رحلة النزوح القسري، حيث اضطرت لقطع مسافة تزيد عن اثني كيلو متر حتى تمكنت من الوصول الى مدرسة تابعة لوكالة الغوث (الأونروا) في حي النصر غرب مدينة غزة، للاحتماء فيها.
هنا داخل فصل دراسي في الدور الأرضي من المدرسة القائمة على ثلاثة ادوار، تجلس فائزة واسرتها المكونة من عشرة افراد على قطعة قماشية بالية، يشاركها في الفصل ايضا عائلة اخرى من خمسة افراد، جاؤوا من المنطقة ذاتها.
تجدر الاشارة الى ان عشرات العائلات لجأت الى أقاربها بداخل المدنية، ولكن ذلك لم يحقق لهم الكثير من الآمن، خصوصا عائلة اسماعيل مطر القاطن في حي الجلاء غرب مدينة غزة والذي سقطت على منزله قذيفة مدفاعية بينما كانت قد نزحت الى شقته ثلاثة أسر من ابناء عمومته، لكن القدر شاء الا تنفجر.
وينوي اللاجئون الجدد صيامهم فجرا على قليل من السحور الذي تبرع به الوكالة الدولية وفاعلو الخير، بينما لا يتوفر لديهم الكثير من مقومات الحياة.
وحمل الشاب خالد جلال طفلته بين يديه في باحة مدرسة (غزة الجديدة الاعدادية)، واخذ يلقي بها في الهواء ثم يعود ويلقفها ثانية، ويقول انه بذلك يحاول تلهيتها عن اجواء الفزع التي تعيش.
الشاب جلال الذي بلغ الثلاثين، جاء هو وأسرته كاملة التي يزيد عددها عن عشرين فردا بين نساء وأطفال وشباب، قادمون من بلدة بيت حانون اقصى شمال القطاع، يؤكد أنهم كتب لهم الحياة بأعجوبة على اثر الضربات المتلاحقة التي كان يوجهها الطيران لمنطقة سكنه.
ويشير المواطن العاطل عن العمل، إلى ان القدر حالفهم بالخروج بأرواحهم وملابسهم التي يرتدونها فقط، في اشارة إلى عدم تمكنهم من جمع مدخراتهم او الفرار بقليل من المأكل والمشرب الذي يعينهم على الصمود مدة اطول.
وإن كان النازحون قد احتموا قليلا من الضربات المتلاحقة، لكنهم لايزالون لا يأمنون على انفسهم كثيراً، كما قالوا. خصوصا وهم يخشون تكرار حادثة مدرسة (الفاخورة) التي شهد نازحوها في زمن الحرب الأولى (2008-2009) حمماً من الفسفور الابيض أودى بحياة نحو 43 شهيدا.
ورغم تشابه روايات النازحين الجدد، إلا أن كل منهم له قصة مع الموت، فمنهم من نجا بجسده وابناءه، وأخرون خلفوا وراءهم شهداء من الجيران والأقارب. غير انهم ايضا تجمعهم قصة مشابهة حصلت مع اجدادهم ابان النكبة الفلسطينية 1948 التي اجبر خلال الفلسطينيون على الرحيل عن قراهم ومدنهم تحت تهديد القتل والتشريد.
ومع دخول الحرب البرية يومها الرابع في غزة، واشتداد الاجواء ضراوة، اضطرت آلاف العائلات القاطنة بالقرب من الشريط الحدودي بدء من رفح جنوبا وحتى بيت حانون شمالا، لمغادرة منازلهم تحت القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي المكثف.
وقالت وكالة الغوث «الاونروا» ان عدد الفلسطينيين النازحين الذين يبحثون عن الملجأ لدى مدارسها في غزة اصبح الان مساويا وقد تجاوز عددهم 50 ألف شخص في 44 مدرسة.
وعلى ضوء مضاعفة اسرائيل من وتيرة العدوان على القطاع، ترى الأونروا أن ارقام النازحين ستتضاعف بصورة اكبر، الأمر الذي سيلقي عبئا إضافيا على السكان المعرضين للخطر أصلا، موضحة انها قلقة على وجه الخصوص من أثر هذا على اللاجئين الذين تقوم على خدمتهم والذين يبلغ عددهم 1,2 مليون شخص، غالبيتهم يعتمدون أصلا على الغذاء والمساعدات الأخرى من المنظمة.
ووجه روبرت تيرنر مدير عمليات الأونروا في القطاع، في مؤتمر صحفي عقده في غزة، نداءً عاجلا، بضرورة تأمين مبلغ 60 مليون دولار أمريكي بشكل ملح للاستجابة للاحتياجات الفورية للمأوى والغذاء والصحة والدعم النفسي-الاجتماعي للأسر المتضررة، ولتجديد مخزونات الطوارئ، كما قال.
تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقية بتاريخ 22/7/2014