لم يعد مستغرباً ولا منتظراً أن يقدم الإعلام الغربي تغطية «موضوعية» أقله في الشكل للجرائم التي يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي في عدوانه على غزة. إلا أنّ آخر «صرعات» هذا الإعلام هو تصوير القضية الفلسطينية كوجبة «فاست فود» يمكن في ثلاث دقائق الإحاطة بها لـ«المبتدئين» من المتلقين الغربيين. أول من أمس، نشرت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية على موقعها الالكتروني ريبورتاجاً قصيراً بعنوان «إسرائيل – فلسطين: كيف تفهم الصراع عبر الخرائط».
للوهلة الأولى، يوهمك التحقيق بأنّه يقدم طرحاً «شبه موضوعي» للقضيّة في وسيلة إعلام غربية، نائياً عن الانحياز لاسرائيل. لكن سرعان ما تلاحظ أنّ عدم الانحياز الظاهر هذا مفخَّخ بجملة مغالطات أولها استخدام مصطلحات توازي بين المحتلِّ والواقع تحت الاحتلال، وتخطّي محطات تاريخية مفصلية كان لها أكبر تأثير في مسار القضية الفلسطينية. بدايةً، يعطي عنوان الشريط طابعاً بأنّ الصراع «إسرائيلي- فلسطيني» وهو التعبير الذي درج الإعلام الغربي على استخدامه في توصيف القضيّة الفلسطينية، من منطلق أنّ ما يحصل على هذه البقعة هو صراع بين «شعبين» لا يجدان السبيل إلى التوافق والتصالح، وليس احتلالاً واضحاً يترافق بجرائم وممارسات وحشية.
لكنّ الخطأ الكبير هو المحطات التاريخيّة المفصلية التي اختير إظهارها على أساس أنّها بدايات «الصراع»، مقابل تجاهل وقائع أخرى أكثر أهميّة. مثلاً، اعتبر الريبورتاج أنّ تاريخ القضيّة الفلسطينية يعود إلى عام 1922 بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى حين بدأت هجرة اليهود إلى فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني. لم يمرّ على تاريخ الحركة الصهيونية التي بدأت منذ 1897 في مؤتمر بال في سويسرا برئاسة ثيودور هرتزل بتأسيس فكرة قيام وطن قومي لليهود في فلسطين. لم يتحدث أيضاً عن «اتفاقية سايكس- بيكو» (1916) التي جعلت المنطقة محل تقاسم بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.

تجاهل الريبورتاج
ذكر اسرائيل كقوة
احتلال، مصوّراً أنّ الصراع يقع بين شعبين

وبموجبها حصلت فرنسا على أجزاء من سوريا وجنوب الأناضول والموصل في العراق ولوِّنت باللون الأزرق في التحقيق، وحصلت بريطانيا على أراضي جنوب سوريا إلى العراق شاملة بغداد والبصرة والمناطق الواقعة بين الخليج العربي والأراضي الممنوحة لفرنسا ومينائي عكا وحيفا ولونت باللون الأحمر. أما بقية مناطق فلسطين فقد لوِّنت بالبني، واتفق على أن تكون تحت وصاية دولية. وبهذا كانت «سايكس - بيكو» بداية لاستحصال قادة الحركة الصهيونية، أبرزهم روتشيلد، على وعد بلفور. إذ قام وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور بإصدار قرار على هيئة رسالة إلى روتشيلد أكّد فيها تعاطفه مع الشعب اليهودي والعمل على بذل الجهد لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
تعمّد العمل عدم ذكر هذه المعلومة التي أصبحت من الوقائع التاريخية المعروفة والمهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ يشكّل «وعد بلفور» الاتفاق الصريح حول سلب الفلسطينيين أرضهم ومنحها لليهود من أجل مصالح بريطانيا الاستعمارية. في هذا السياق، لم يذكر التحقيق عصابات الهاجاناه التي تأسست بعد قيام الثورة ضد الاحتلال البريطاني عام 1920 لحماية اليهود المهاجرين إلى أرض فلسطين، وزادت أعداد المنضمين إليها بعد ثورة عام 1929 وتحوّلت إلى الجيش الإسرائيلي عام 1948. وأشار الريبورتاج إلى أنّ زيادة هذه الهجرة أسهمت في تأجيج التوترات بين «شعبين يتقاسامان من الآن فصاعداً أرضاً واحدة». تعبير وازى بين الظالم والمظلوم ووضع المحتلّ في موازاة الشعب الفلسطيني معتبراً إياها شعبين يجب أن يتعلّما العيش بسلام.
الأخطر ما جرى لاحقاً، إذ تمت الإشارة إلى أنّه بعد تأسيس الدولة اليهوديّة في 14 أيّار (مايو) 1948 وتقسيم فلسطين، لم تعترف الدول العربيّة المجاورة بها فشنت هجوماً عليها. لذا، دافعت «إسرائيل» عن نفسها واحتلّت جزءاً من الأراضي «الممنوحة للفلسطينيين». تكرّر التعبير ذاته في ما يتعلّق بحرب الـ 1967 حين أورد الريبورتاج أنّ «اسرائيل» دافعت عن نفسها في وجه اعتداء آخر من الدول العربية المجاورة ونجحت في احتلال سيناء والجولان، كأنّ اسرائيل هي الضحية المسالمة في بيئة عدائية.
ولم يذكر الوثائقي شيئاً عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 ولم يستخدم كلمة «مقاومة» التي هي عمل مشروع تكفله القوانين الدولية في وجه قوة محتلة نشأت في فلسطين وراحت تتمدد كالسرطان في المنطقة من احتلال جنوب لبنان واجتياح بيروت عام 1982 وطبعاً، لم يتوقف عند المقاومة الوطنية اللبنانية.
بعد ذلك، مرّ الريبورتاج على المفاوضات التي أجريت بين «منظمة التحرير» والعدو الاسرائيلي، واضعاً اللوم بطريقة غير مباشرة على انتفاضة 2000 التي أنهت اتفاقية أوسلو وأعادت تأجيج الصراع «الفلسطيني- الاسرائيلي» حتّى اليوم. وبهذا أنهى ما اعتبره تاريخ الصراع «الفلسطيني-الاسرائيلي» المستمرّ حتى اليوم، مصنّفاً بطريقة غير مباشرة ما يجري اليوم بأنه ليس سوى جولة أخرى من جولات الصراع!