بحثنا كثيراً، في الأسبوعين الاخيرين، عن الشخصيّات السياسيّة والقيادات الأوروبيّة التي كانت رأس حربة «الربيع العربي». أين «أصدقاء سوريا» الأوروبيّون اليوم، وقد تحوّل سجن غزّة إلى أرض المجزرة الكارثيّة فيما العالم يتفرّج، وأوباما يصدح ـــ وقبله هولاند وفابيوس وآخرون ـــ بـ «حق اسرائيل الشرعي في الدفاع عن نفسها (لكن بلطف ولباقة رجاء)»؟ أين هؤلاء «الأصدقاء» الأعزّاء، وأهل غزّة يُذبحون بالعشرات كلّ يوم؟
علماً أن نسبة ٨٠ في المئة من ضحايا العنف الدموي الاسرائيلي منذ ١٥ يوماً، من المدنيين، حسب تقرير للأمم المتحدة نشرته «ذي إنديبندنت» … لو أنّ السامريّ الطيّب اكتفى بالصمت والحياد، لقلنا إنّه يمرّ، من جرّاء ما يجري، بأزمة ضمير حادة شلّت قدرته على الدفاع عن «المعذّبين في الأرض». لكنّ أوروبا الرسميّة، أو لنقل أصوات السوبرانو الوازنة فيها، تدافع عن القاتل، وتبرّر له، وتؤمن له الغطاء السياسي والديبلوماسي، والبروباغاندا الاعلاميّة التي تليق بأبشع الأنظمة الشموليّة. كل هؤلاء هم أصدقاء إسرائيل إذاً، لا سوريا وفلسطين، وهذه الصداقة هي التي تحدد مواقفهم الاستراتيجيّة، وسياساتهم الخارجيّة.
على المحطّة الفرنسيّة الأولى قبل أسبوع، كان التقرير الرئيسي عن الأطفال الأربعة الذين أبيدوا على شاطئ غزّة أمام الكاميرات. لكن سرعان ما جاء الريبورتاج التالي ليشرح كيف أن تلك المنطقة في شمال غزّة مليئة بـ «قواعد الارهابيين»، وكيف أن اسرائيل «نجحت في ضرب معظم البنى التحتيّة والأنفاق تمهيداً لبدء الهجوم البرّي». الريبورتاج الثالث زيارة، في أشكلون على مرمى صاروخ من غزّة، لعائلة فرنسية مهاجرة حديثاً إلى «أرض الميعاد». يؤكد الوالدان على استعداد العائلة لمواجهة الظروف مهما اشتدّت: «صواريخ الارهابيين أرحم من الاضطهاد الذي يواجهه أبناؤنا في فرنسا لأنّهم يهود»! ذلك الاعلام «المتوازن»، نموذج معبّر عن آليات تكييف الرأي العام، لتشريع سياسة الابادة والاحتلال والاستيطان ومصادرة الحقوق وطمس الهويّة وتزوير التاريخ، بمباركة الغرب الديمقراطي ودعمه.
الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، أتقن رقص الفالس في الأيّام الماضية، لكثرة ما تنقّل بين مواقف «متفهّمة» لممارسات إسرائيل، وأخرى «متأسفة» على المجازر بحق المدنيين في غزّة (تصريح بهدله عليه نتنياهو هاتفياً) … قبل أن يهتدي إلى توازن غير مقنع. حسب رئيس حكومته مانويل فالس، ووزير خارجيّته لوران فابيوس «الموقف الفرنسي متوازن من الأزمة». توازن ليس الا «اطلاقاً ليدي اسرائيل كي تواصل المجزرة»، يكتب آلان غريش في مدونته على موقع الموند ديبلوماتيك . التوازن الأوروبي عموماً، يقضي بمساواة الجلاد وضحيّته، والتعامل معهما كجارين متخاصمين. لكن مهما قدّم الفلسطيني من تنازلات سيبقى همجيّاً وشريراً، ومهما تمادى الاسرائيلي في جريمته التاريخيّة، فسيبقى الرجل الأبيض الذي يرمز للخير والحضارة.
نشر موقع «ميديابارت» أخيراً رسالة معبّرة إلى هولاند وفابيوس وميركل وكاميرون: «تركزون على حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكن ليس أسهل عليها من وضع حد للصواريخ. يكفيها أن تحترم مقررات الأمم المتحدة، وأن تنسحب إلى حدود الـ 67». «عار عليكم أن تماهوا بين سلطة الاحتلال مع الشعب المحتل». «أنتم تتفادون ممارسة ضغوط جديّة على اسرائيل، لإجبارها على وقف عدوانها». الاتحاد الاوروبي اضخم شريك تجاري لإسرائيل (أكثر من خمسة مليارات سنويّاً)، غير المساعدات. وبوسعه أن يمارس ضغوطاً جديّة، لكنّه اختار أن يغض الطرف عن سياسة الاستيطان والابادة المنهجية التي تمارسها سلطات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. حتّى المساعدات الاوروبيّة للفلسطينيين تستفيد منها إسرائيل في المصاف الأخير، كما يشرح الثنائي فيرونيك دو كيسيل وستيفان هيسيل في «فلسطين، الخيانة الأوروبيّة» . («فايار» ـــ ٢٠١٣).
الأوروبيون لم يتعلّموا من دروس التاريخ. حتّى فرنسا نسيت ما كانت تعرفه أيام شارل ديغول. أما نحن، فنعرف أننا لا نحارب اسرائيل وحدها، بل الاستعمار الجديد الذي يرعاها ويحميها ويدعمها بكلّ الوسائل.