أمام مشاهد التقتيل والتدمير الهمجي، الممنهج والمدروس سلفاً، الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد 1.7 مليون فلسطيني وفلسطينية في قطاع غزة المحاصر والمعذّب والمقاوم، يتردد في أذهان كل صاحب ضمير منا السؤال الآتي: «كيف أقف مع شعبنا في غزة في هذه الأوضاع؟». لا يوجد رد واحد، ولكن بالتأكيد يوجد رد مناسب لكل الإجابات: «الوقوف» مع غزة لا يمكن أن يكون بـ«الجلوس» أمام التلفاز! فـ«مشاهدة» المقاومة و«الشعور مع» ضحايا العدوان لا يرقيان لمستوى المقاومة ولا حتى دعم صمود شعبنا. لا بد من قول وفعل مقاوم، بشتى الوسائل الممكنة والمبدعة والمؤثرة، لنخفف الضغط على أهلنا من خلال رفع الضغط على الطغاة.
أم العبد و«دروس» المقاومة

جدتي الراحلة، أم العبد البرغوثي، علمتني المقاومة قبل عقود دون دروس ولا تنظير. كانت حقاً جدة... عندما كنا في طفولتنا نزور رام الله في العطلة الصيفية، قادمين من أرجاء الأرض، من شتاتنا الإجباري، كنا نعيش فلسطين معها لأسابيع. فمن الزعتر الطازج والنعناع البلدي والتفاح المعطر الذي تلقطه من شجرتها المفضلة، والمقدوس ومربى المشمش المخزون بعناية، وأطباقها الشهيرة، ونظافة كل شيء في دارها، وصورة جمال عبد الناصر التي تطل بشموخ على كل من يدخل البيت، إلى أحاديث السجون والتظاهرات وأسر الشهداء إلى الأنشطة الفنية... إلى أسرار النضال غير المباح مجرد التفكير فيها خارج منزلها، خلف حدود واحتها العجيبة، بكل هذا وذاك جعلتنا نعي وندرك فلسطين. علمتنا أن وجودنا كمضطهدين يحتم علينا أن نقاوم كي ننتصر. علمتنا الكثير دون أن تتكلم، بالنموذج، بالحنكة وبعقل وذاكرة وروح مفعمة بالوطن وبالعروبة وبصفد وطبريا والفقراء والمعتقلين والمناضلين.

لم نرَ في التاريخ مجتمعاً استعمارياً غارقاً في العنصرية يتنازل طوعاً عن استعماره

رغم كل تضحياتها وعطائها النضالي الخصب في شتى المجالات، من العمل السرّي إلى الخيريّ والمعنويّ، لم تنظر يوماً لنفسها كمناضلة، بل فقط كفلسطينية تقوم بواجبها في «دعم» المقاومة. لم تعِ حقيقة أنها هي والكثيرات والكثيرين مثلها كانوا هم أنفسهم مقاومين.
تعلّمْت من جدتي أن المقاومة، ببساطة، هي ليست فقط ما تقوم به نخبة فدائية مستعدة للتضحية بأغلى ما تملك من أجل الحرية والعدالة؛ بل هي أيضاً كل فعل نضالي ضد الذل والاضطهاد يسهم في استعادة حقوقنا وكرامتنا وأرضنا. إذا حصرنا المقاومة في العمل الفدائيّ وحسب، وهو بلا شك أعلى أشكال المقاومة تضحيةً، نعلن عملياً تقاعس الغالبية الساحقة منا عن القيام بأيّ فعل مقاوم. لذلك لا بد أن نعرّف المقاومة بشكل يحفزنا على أن نقاوم بفاعلية ومثابرة ورؤية، كل في موقعه/ا وبإمكانياته/ا، لا أن نختصرها في أفعال بطولية لآخرين نشاهدهم على الشاشات أو نمجدهم على صفحات التواصل الاجتماعي وحسب.
من هذا المنطلق، وبسبب رفضي القاطع للظلم والاستبداد (الخارجي والداخلي)، قررت أن أقاوم بما أستطيعه، فشاركت مع زميلات وزملاء آخرين في تأسيس الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل وبعدها حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، المعروفة عالمياً باسم BDS. ولكن كيف تسهم هذه الحركة، القائمة على مبادئ حقوق الإنسان الكونية والقانون الدولي، مع كل ظلمه للشعوب المقهورة وانحيازه إلى القوى المهيمنة، في استراتيجية النضال الوطني من أجل الحقوق الأساسية لشعبنا، وأهمها حق العودة إلى الديار؟

«استراتيجية النضال الوطني»؟

بعض المسؤولين الفلسطينيين يتحدث بصراحة عن أن «المفاوضات» هي الاستراتيجية الأهم للوصول لحقوقنا، متجاهلين حقيقة أن ما يُسمّى تفاوضاً (negotiation) فلسطينياً مع دولة الاحتلال لا يعدو كونه نفياً (negation) تدريجياً لحقوق الشعب الفلسطيني ومحاولة شرعنة ذلك بإضفاء صفة رسمية فلسطينية وعربية عليه. هذه ليست بمفاوضاتٍ حقيقيّة، لسببين بسيطين: أولاً، العبد لا يفاوض السيّد أبداً، فإما أن يستجديه أو يقاومه؛ ثانياً، المفاوضات الجدية في حالات الاستعمار المماثلة لحالتنا الفلسطينية لا تأتي إلا كجزء من استراتيجية نضالية وكتتويج لتعديل موازين القوى من خلال المقاومة بأشكالها لإجبار العدو على التراجع والتسليم بحقوق الشعب الواقع تحت الاستعمار. فما بالكم والحال هنا هو لاستعمار استيطاني إحلاليّ، يسعى إلى تشريد واستبدال الشعب الأصلاني برمته، لا التوصل لتسوية معه؟
لقد أدمن البعض منا الهزيمة والتكيّف مع ما يسلّم به كانتصار للمشروع الصهيوني. لقد ربحت إسرائيل معارك كثيرة وحققت الكثير، دون شك، ولكن معظم شعبنا وأمتنا لا يزال مقتنعاً بإمكانية النصر والانعتاق من المستعمر. إن جوهر الاستراتيجية الفلسطينية الكفاحية الجديدة لا بد أن يكون مبنياً على إيماننا الراسخ بهذه الإمكانية، وعملنا المثابر والحكيم والجماعيّ لتوفير الآليات النضالية المحلية والعربية والعالمية الضرورية لذلك، أي دون إسقاط التمنيات أو الغرق في مستنقع القدرية. إن أهمّ ما نواجه به «الجدار الحديدي» الذي بنته الحركة الصهيونية في عقولنا، أي احتلال عقولنا بفكرة استحالة النصر، هو موجة الأمل المبني على العمل والمثابرة والنضال المبدئي والحكيم في آن واحد.
إن استمرار تقيّد المسؤولين الفلسطينيين باتفاقية أوسلو وتوابعها — بالذات التنسيق الأمني «المقدّس» وبروتوكول باريس الذي يكرّس التبعية الاقتصادية — من طرف واحد، رغم كل انتهاكات دولة الاحتلال المتتالية والجسيمة، واستمرار سياستهم المتناغمة مع عقلية أوسلو و«المفاوضات» الأزلية و«الشراكة» مع إسرائيل بدلاً من مواجهتها ومقاومتها هما جوهر أزمتنا السياسية اليوم كشعب وأمة، والتخلص منهما هو مفتاح الحل.
في سياق الإسهام في تطوير استراتيجية فعّالة ومعاصرة للنضال الوطني الفلسطيني، وكون الاستراتيجية هي الطريق إلى الهدف، فلا بد أولاً من طرح أهداف النضال الوطني الفلسطيني ونقاش ما إذا كان هناك إجماع عليها، أو ما يقاربه. لقد تغيّرت هذه الأهداف، كما عبّرت عنها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف)، تدريجياً منذ تأسيس المنظمة في 1964 وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1965. فمن تحرير كامل التراب الوطني، إلى دولة ديموقراطية علمانية على كامل التراب، إلى الحل «المرحلي» الذي يدعو إلى تأسيس سلطة فلسطينية على أي شبر يتحرر من أرض فلسطين، إلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الأراضي المحتلة عام 1967 والقدس الشرقية عاصمتها مع تأكيد حق العودة للاجئين، إلى دولتين لشعبين مع تبادل أراضٍ لضمان احتفاظ إسرائيل بكل «الكتل الاستيطانية» (ومعظم القدس المحتلة معها) وأهم الأراضي الزراعية وموارد المياه، إلى التلميح بإمكانية التنازل عن حق العودة من خلال تبني صيغة «العودة إلى أي مكان في الوطن» (كما كشفت الأوراق السرية للـ«مفاوضات»)، ما يشير إلى العودة إلى الضفة وغزة فقط، إلى التصريح بعدم الرغبة في «إغراق إسرائيل بملايين اللاجئين» [1]، وصولاً إلى إبداء الاستعداد للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية [2]، أي لنسف المشروع الوطني الفلسطيني برمته. ووصلنا اليوم لمرحلة «التنسيق الأمني مقدس».

بعض المسؤولين يتحدث بصراحة عن أن «المفاوضات» هي الاستراتيجية الأهم للوصول إلى حقوقنا


في المقابل، إن أي رؤية بديلة لا ترتبط بـ«ساقَيْن» تسيران بها على الأرض نحو الأهداف المرجوّة هي بالضرورة غير بنّاءة لأنها تبقى أسيرة التمنّيات ولا تحفّز على النضال التراكمي والفعّال.

حركة مقاطعة إسرائيل BDS: «تهديد استراتيجي»

في زمن التصَحّر الوطني الذي نعيشه، من السهولة أن نيأس لعدم قدرتنا على مواجهة الصحراء ورياحها العاتية. ولكن إذا فهمنا أن أحد عناصر الاستراتيجية يكمن في «تقطيع المشكلة» المستعصية على الحل، أي النظر إلى أجزائها التي نستطيع فعل شيء عمليّ تجاهها، يحثنا الواجب الوطني والأخلاقي لخلق «واحات» خصبة بعملنا المبدع وخططنا المدروسة وحملاتنا المبنية على رؤى واقعية وطموحة في آن واحد، بدلاً من محاولة هزيمة الصحراء ككل. وعندما تتزايد هذه الواحات وتبدأ بالتشبيك مع بعضها البعض، تخلق واقعاً نوعياً جماعياً جديداً قادراً على صد الصحراء، في البداية، ثم «تخضير» أراض كانت قد ابتلعتها من قبل.
إحدى هذه الواحات، التي أصبحت اليوم حالة حول العالم، هي حركة المقاطعة. لقد هيأ نداء مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، الصادر عن الغالبية الساحقة من المجتمع الفلسطيني في 2005، الأرضية لتجاوز صحراء السياسة الفلسطينية الرسمية التي فشلت في حماية الأرض الفلسطينية من النهب المستمر وفي حماية الإنسان الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 67 من جرائم الاحتلال والمستعمرين، بخلق مساحة للعمل الفردي والجماعي المبدع، المؤثر والقادر على المساهمة في إحداث تغيير حقيقي في موازين القوى.
في ذروة قوتها الاقتصادية والعسكرية، بالذات النووية، ورغم فرض هيمنتها على دوائر القرار الأميركي في ما يتعلق بالمنطقة العربية وجوارها ككل، ورغم ضعف القيادة الفلسطينية وانهيار سقف الطموح الرسمي إلى أدنى مستوى منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، فإن إسرائيل تشعر اليوم بالتهديد على نحو غير معهود منذ زمن. لكن هذه المرة، للمفارقة، يأتي التهديد من حركة نضال شعبي ومدني تستند إلى القانون الدولي وتستمد مبادئها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ففي حزيران 2013، قررت الحكومة الإسرائيلية رسمياً أن الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (BDS)، التي أطلقها المجتمع الفلسطيني بغالبيته الساحقة في 9 يوليو 2005، باتت تشكل «تهديداً استراتيجياً» للنظام الإسرائيلي الذي يجمع بين الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري (الأبارتهايد). في ضوء ذلك، قررت الحكومة الإسرائيلية نقل مسؤولية محاربة حركة المقاطعة إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية، بعد أن كانت وزارة الخارجية تتولى هذا الملف.
حدد نداء BDS ثلاثة شروط تشكل الحد الأدنى المطلوب لكي يمارس الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير: إنهاء احتلال جميع الأراضي العربية التي احتلت في 1967، بما في ذلك إزالة المستعمرات والجدار؛ إنهاء نظام التمييز العنصري (الأبارتهايد) القائم في أراضي عام 1948 ضد الجزء من شعبنا الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية؛ وعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي شردوا منها. أي إن حركة المقاطعة تبدد الانطباع الذي ساد بين الكثيرين بعد توقيع اتفاقية أوسلو الكارثية بأن الشعب الفلسطيني يمكن اختزاله بالفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة عام 1967، دون فلسطينيي الـ 48 ودون اللاجئين.
هذه الحقوق الأساسية الثلاثة تتوافق مع الأجزاء الأساسية الثلاثة المكونة للشعب الفلسطيني: فلسطينيو الشتات، ويشكلون 50% من الفلسطينيين في العالم؛ الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1967، ويشكلون 38% من الشعب الفلسطيني، وفلسطينيو 48 (مواطنو دولة إسرائيل) ونسبتهم 12% من الشعب الفلسطيني.
امتداداً لتاريخ الشعب الفلسطيني الحافل بالنضال السلمي والشعبي، ومن ضمنه تجارب المقاطعة، ولا سيما في الانتفاضة الأولى، وتأثراً بتجارب النضال في جنوب أفريقيا وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كنغ، انطلقت حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) في 2005 ودعت إلى عزل إسرائيل بشكل شامل وفي جميع المجالات (الأكاديمية والثقافية والرياضية والعسكرية والاقتصادية)، لكونها دولة احتلال وأبارتهايد واستعمار استيطاني، كما قاطع العالم جنوب أفريقيا خلال حقبة نظام الفصل العنصري.
رغم سعينا إلى فرض مقاطعة شاملة على إسرائيل، فإن المقاطعة تتبع مبدأ «الحساسية للسياق»، أي إن نشطاء المقاطعة في كل موقع هم الأكثر قدرة على تحديد الشركات أو المؤسسات التي يستهدفونها بحملاتهم وكيفية النضال للوصول إلى هذه الأهداف المحلية. إن أغلبية حلفائنا في الغرب، مثلاً، يستهدفون الشركات المتورطة في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي في الأراضي المحتلة عام 1967 فقط، ولكن بعضهم بدأ في تجاوز ذلك فتبنى المقاطعة الشاملة لإسرائيل ومؤسساتها المتواطئة.
حركة BDS ليست حزباً سياسياً ولا حركة أيديولوجية، انها حركة حقوق إنسان عالمية ذات قيادة ومرجعية فلسطينيتين. وهي تعتمد على الجهود الطوعية والمبدعة للأفراد والمؤسسات المؤيدة لحقوق الإنسان وإعلاء شأن القانون الدولي. فهي إذاً ليست حكراً على طرف سياسي أو أيديولوجيي أو غير ذلك.

نجاحات لا تمنّيات

إن تتالي نجاحات حركة المقاطعة منذ انطلاقها قبل تسع سنوات، وبالذات انتصاراتها النوعية أخيراً، تشير إلى مرحلة جديدة، قد تواجه إسرائيل فيها عزلة دولية غير مسبوقة. لذلك، لا بد لأن تشكّل حركة المقاطعة عنصراً رئيسياً من عناصر استراتيجية النضال الفلسطيني من أجل حقوقنا الشاملة. وهذا لا علاقة له بحل «الدولة الواحدة» أو «الدولتين»، فحركة المقاطعة، كأوسع تحالف في المجتمع الفلسطيني، لا تتبنى أي موقف تجاه الحلول، بل تصر على الحقوق، بغض النظر عن الحل النهائي الذي يرضاه شعبنا بأجزائه.
في يونيو/ حزيران 2013، قررت الحكومة الإسرائيلية نقل ملف محاربة حركة المقاطعة من وزارة الخارجية إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية. وفي هذا العام قررت الحكومة الإسرائيلية رفع موازنة التصدي للمقاطعة وزيادة التجسس على ناشطي المقاطعة، بالذات في الغرب، ومحاولة نزع الشرعية عن الحركة في البرلمانات «الصديقة»، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوستراليا وكندا.
يعكس هذا الهلع الإسرائيلي من حركة المقاطعة التطور الملحوظ في الإجراءات المتعلقة بالمقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات التي اتخذتها صناديق تقاعد ضخمة وشركات وبنوك، بالذات في أوروبا، ضد شركات ومؤسسات إسرائيلية متورطة في الاحتلال والاستيطان. ففي هذا العام وحده، سحب صندوق بيل غيتس (Gates Foundation) استثماراته بالكامل، وقيمتها 182 مليون دولار، من شركة G4S الأمنية بسبب تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان، ومن ضمنها الانتهاكات الإسرائيلية، كذلك فعلت الكنيسة الميثودية (United Methodist Church)، إحدى أكبر الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة. وقبل أيام أقرت الكنيسة المشيخية (Presbyterian Church USA) سحب استثماراتها من الشركات HP وCaterpillar وMotorola Solutions، لتورطها جميعاً في انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي للقانون الدولي.
ويذكر أن ثاني أكبر صندوق تقاعد هولندي (PGGM)، وتبلغ استثماراته العالمية 200 مليار دولار، قد سحب استثماراته من جميع البنوك الإسرائيلية المتورطة في الاحتلال، وكذلك فعل صندوق التقاعد اللوكسمبورغي. أما «دانسكه بنك»، أكبر بنك في الدانمارك، فقد قطع علاقاته ببنك هبوعاليم لتورطه في الاحتلال. وانسحبت شركات أوروبية ضخمة من عطاء بناء موانئ إسرائيلية خاصة في أسدود وحيفا «خوفاً من تنامي المقاطعة». وفي خطوة مهمة، قرر الاتحاد الأوروبي في منتصف عام 2013 إصدار توجيهات تمنع تمويل مشاريع إسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية. تلا ذلك قرار من الحكومة الألمانية (الألمانية!) هذا العام باستثناء جميع الهيئات الإسرائيلية العاملة في الأرض المحتلة (بما فيها القدس الشرقية) من جميع العقود المستقبلية في مجال التكنولوجيا والبحث العلمي. كما «نصحت» حكومات 17 دولة أوروبية شركاتها ومواطنيها بعدم التورط في مشاريع إسرائيلية في الأرض المحتلة. أما من الناحية الثقافية، فقد انضم نجم هوليوود الشهير، داني غلوفر (Danny Glover)، إلى قائمة الفنانين والكتاب والسينمائيين العالمين المؤيدين للمقاطعة الثقافية لإسرائيل. ويذكر أن القائمة تضم بعض أشهر الكتاب والفلاسفة والفنانين في العالم.
وفي عام 2013، قررت أربع جمعيات أكاديمية في الولايات المتحدة الانضمام للمقاطعة الأكاديمية الشاملة لإسرائيل. وكذلك فعل اتحاد المعلمين في إيرلندة واتحاد الطلبة الناطقين بالفرنسية في بلجيكا (ويضم 100 ألف عضو) وغيرهما. كذلك اعتبرت حركة المقاطعة قيام العالم الشهير Steven Hawking بمقاطعة مؤتمر إسرائيلي يترأسه شمعون بيريس بمثابة ضربة قوية لإسرائيل.
بسبب نمو حركة المقاطعة وتطرف إسرائيل اليميني بشكل حاد أسقط كل قناع تدنت شعبية إسرائيل بين شعوب العالم إلى أدنى المستويات، بحيث باتت تنافس كوريا الشمالية على موقع ثالث أسوأ دولة في العالم من حيث الشعبية، حسب نتائج استطلاع الرأي العالمي GlobeScan، الذي تجريه BBC كل عام. كل هذا خلق انطباعاً لدى قيادات وأحزاب دولة الاحتلال بأن عزلتها الدولية آخذة في النمو وأن «اللحظة الجنوب أفريقية» باتت أقرب من ذي قبل. ومع انتشار صور المذابح الإسرائيلية الأخيرة والمستمرة في غزة، تخشى إسرائيل من تفاقم عزلتها أكثر بكثير من السابق، ومن المعطيات الأولية، نعي تماماً دواعي هذا الخوف الإسرائيليّ!

التطبيع

تسترشد اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها بتعريف التطبيع الذي أقر بالإجماع في المؤتمر الوطني الأول لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها الذي عقد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، وشارك فيه ممثلو جميع القوى السياسية (وعلى رأسها حركة «فتح») وجميع الأطر النقابية والاتحادات الشعبية وممثلي شبكات المنظمات الأهلية وغيرهم. أهم ما في هذا التعريف هو أن العلاقة بين طرف فلسطيني أو عربي من جهة وطرف إسرائيلي من جهة أخرى يجب أن يتوافر فيها شرطان ضروريان كي لا تشكل تطبيعاً:
1ــ أن يعترف الطرف الإسرائيلي بحقوق شعبنا الأساسية (بما فيها حق العودة).
2ــ أن تكون العلاقة نفسها شكلاً من أشكال النضال المشترك ضد الاحتلال والأبارتهايد والاستعمار الإسرائيلي.
يعد التطبيع من أهم معوّقات حركة المقاطعة، بل ربما يكون أهم سلاح بيد إسرائيل لمحاولة فك عزلتها المتصاعدة. بغض النظر عن النيات، فإن محاولة البعض «لاختراق» المجتمع الإسرائيلي من خلال اللقاءات والمشاريع التطبيعية أدت إلى اختراق مجتمعنا وتقويض القيم الوطنية والأخلاقية فيه وتوفير ورقة التوت للتغطية على الاستعمار الإسرائيلي الشرس لأرضنا والتطهير العرقي المستمر لشعبنا في النقب والقدس والأغوار وغيرها وعلى حصار غزة. إن اللجنة الوطنية للمقاطعة بعد 20 عاماً من فشل فلسفة «أوسلو» وما صاحبها من موجات التطبيع النسوي والعمالي والأكاديمي والشبابي والسياسي والرياضي والبيئي، الممولة من الحكومات والصناديق الأوروبية والأميركية، باتت الغالبية الساحقة من شعبنا غير مقتنعة بإمكانية التأثير في المجتمع الإسرائيلي لمصلحة حقوقنا الوطنية من خلال «الحوار» وما يسمى «التعايش» و«التغلب على الحواجز النفسية». لنا الحق، إذن، في التساؤل: من اخترق من، بالضبط، خلال حقبة أوسلو؟
إن كانت معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع تقَر من خلال حوارات وجدل مجتمعي واسع وعلى مدى زمني طويل نسبياً، فإنها قابلة للتطوير والتعديل حسب تطور الوضع والوعي السياسي والنضالي لشعبنا. لكن المهم هو أن نحافظ على هذه المرجعية الجماعية، وإلا بات كلّ يتبع معاييرَه الخاصة للتطبيع، والتي بالضرورة تستثني ما يقوم به من مشاريع ولقاءات مع الإسرائيليين، بحجة أنه «مختلف» و«يصر على الأجندة الفلسطينية»!
لم نرَ في التاريخ مجتمعاً استعمارياً غارقاً في العنصرية يتنازل طوعاً عن استعماره واضطهاده لشعب مقهور دون مقاومة وضغط فعال من الداخل والخارج. إن كفاحنا الشعبي والمدني داخلياً مصحوباً بمقاطعة عالمية متنامية وفعالة لقادر على إحداث أعمق اختراق للمجتمع الصهيوني.
ما المطلوب من الشباب الفلسطيني والعربي خصوصاً؟
إذا اتفقنا على أن المقاومة هي قبل كل شيء ما يستطيع كل منا القيام به لإنهاء نظام إسرائيل الاستعماري والعنصري وبالتالي استعادة حقوقنا غير القابلة للتصرف، فلن تجدوا «بساطاً أحمرَ» يفرش لكم ولا خططاً جاهزة لإسهاماتكم المرجوة في المقاطعة. لقد أثبتت حركة المقاطعة أنها قادرة على إيصال إسرائيل إلى عزلة دولية في كافة المجالات، ولكن هذا يتطلب مزيداً من تفعيل المقاطعة محلياً وعربياً ومناهضة حازمة للتطبيع بأشكاله، علماً أنّ حركة المقاطعة بالضرورة تقوم على المبادرة الفردية والروح الجماعية التي تخطط وتعمل بإبداع ودون كلل حتى تصل إلى أهدافها، ثم تضع أهدافاً أبعد، وهكذا. نعم، كل منا بحاجة لمساعدة الآخرين، للاطلاع على تجارب أخرى مفيدة، لاستلهام دروس الماضي، ولكن قبل كل شيء نحتاج للقناعة بأن نقاوم وأن ننتصر، ولا نقبل بأقل من ذلك رغم كل العوامل المحبطة.
إن كل استعمار إحلاليّ ينجح فقط إذا أباد السكان الأصليين، كما في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، أو إذا استعمر عقول من بقي منهم وأقنعهم بحتمية الخضوع والتكيف مع انتصار المستعمِر. لنحرر عقولنا قبل كل شيء، لا من خلال جلسات علاج فردي (therapy)، بل من خلال العمل المخطط والفعّال والذكي والواقعيّ والطموح. فالمقاومة خير سلاح لتحرير العقول واستعادة الحقوق معاً. هكذا «نقف» مع غزة.
لا أعلم إن كانت جدتي، أم العبد، لو بقيت معنا اليوم، ستعتبر ما أقوم به وزملائي في حركة المقاطعة BDS مقاومة، ولكني أعلم علم اليقين بأنها كانت ستُسهم فيها بعنفوانها وصبرها وصلابتها وكل شغفها وإنسانيتها غير المحدودة. لن أخذل جدّتي.
* ناشط وباحث، أحد مؤسسي حركة المقاطعة BDS

هوامش:
[1] http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2014/02/140216_abbas_refugees_flood.shtml
[2] http://www.wafa.ps/arabic/index.php?action=detail&id=168576