على مدى أسبوعين، تكبح قلمك، كي لا يكتب عن مضطهَدي الموصل ومضطهِديها. تخشى أن تفضح عجزك. أو أن تبوح بثورتك ورفضك. أو حتى أن تجرح أيقونة غزة وأسطورة النصر على الظلم هناك. على مدى أسبوعين، تُسكت صوتك وعقلك وقلبك، كي لا تصرخ بالحقائق الممنوعة. كي لا تنفجر بالوقائع المحظورة، بالمحرّمات، بما يعرفه هذا الشرق البائس منذ قرون، ولا يعترف به منذ قرون. في صمتك تستعيد صور وجوههم الحزينة، في جولتك الأخيرة على آخر معاقل صمودهم ولجوئهم قبل أعوام.
تستذكر ملاحم نزوح ناسك في أرضهم، في كل أرض. من حصارات الذاكرة القريبة، إلى حصار كتب التاريخ لوعيك. المشهد نفسه هناك، في سهل نينوى، في أرض أول التاريخ وأول تأريخ للبشر. حتى الجغرافيا تتشابه حتى التطابق. كأنك في البقاع، كأنها قرى السفح المفتوحة على إهراءات الخير الممنوع عنها وعن جوع أهلها. ليستبدلوه بالوجع الدائم. أسبوع كامل من التجوال على آخر المقاومين، كما على بقايا أركيولوجية لحضارة كانت. من عنكاوا إربيل إلى دهوك، نهر الزاب يروي أوجاعاً أكثر مما يروي زرعاً. تمرّ القرى شبه مهجورة أمام عينيك الدامعتين: بردراش، روفيا، مللا، بروان، عين سفني، ساري سينك، إينيشكي، أرادين ...قبل أن تضيع الأسماء والمعالم في وجوه الرواة والمآسي. كانت كلها بشراً. كانت تضج حياة وحضارة طيلة آلاف السنين. قبل أي دين وأي الله وأي سماء. كانت الأرض هنا وكان الناس هنا. قبل أن تصحرها وتقرضهم حروب الآلهة والسماوات.
في قرية تن الجبلية، كان الثلج لا يزال يحتل زوايا البيوت المهجورة. 30 بيتاً صمدت. 72 نسمة بالعد والعدد. جلّهم من كبار السن. لا يزال وجه ذلك المزارع يهجسك وهو يروي معاناته. يعيش طيلة العام مع شجرات تفاحه. كأنها أبناؤه الذين رحلوا. حتى يأتي الموسم. يقطفها بعينيه، يحملها في قعر القلب، وينقلها إلى المدينة الكردية البعيدة. كلفة الشاحنة 45 ألفاً. وسعر مبيع تفاحها 46 ألفاً. يصمد في جيبه ألف، ويصمد في بيته كأنه ألف رجل. تسقط دموعك في داخلك وهو يروي. تمسحها بصوت أجهش يسأل عن أي شيء، لتستر عيبك وعجزك، وتمشي...
في دهه، برزانا، داوودية، أرادين، ديره، حمزية... بقايا سكان. هنا لا طرقات أحياناً. لا خدمات عامة، لا مدارس. في إحدى القرى ثمة 12 تلميذاً يدأبون على ارتياد المدرسة. أقرب مدرسة على بعد أكثر من ساعة بالسيارة. يصير علمهم مقاومة من نوع أكمل. تصير حروفهم خنادق وكتبهم بنادق. يقاتلون بها، ويتعلمون. أهلهم موظفون حكوميون. هي فرصة العمل الوحيدة في المنطقة كلها. هم من عانوا التهجير مرات ومرات. في حرب الأنفال، هجّرهم الطاغية. وفي حرب 2003 هجّرهم التحرر منه. وفي حروب ما بعد الاحتلال والتحرير هجّرهم الاستقلال والحرية. يروي لك أحدهم أنهم لم يتعاملوا مع جيرانهم عبر تاريخهم، إلا بالمحبة. في المقابل، يعلن أحد خطباء المساجد القريبة منهم لمصلي كل جمعة، صارخاً عبر مكبرات الصوت: لا تشتروا بيوت النصارى ولا أراضيهم. غداً يرحلون عنها وعنا، وتصير ممتلكاتهم لكم بلا ثمن!
يعتصر قلبك حين تنزل إلى السهل. هنا الناس كما كانوا قبل زمن السلم عندك. لا يزال بعضهم يحمل السلاح. ولا تزال عينا ذلك الشاب الثائر تقضّان وجدانك. يسألك ماذا يمكن للعالم أن يفعل لأهله وشعبه وأرضه ووطنه. يسألك ما العمل ليتحد مسيحيو وطنه، بين كلدان وأشوريين، وبين ارثوذكس وكاثوليك وبين «زوعة» و«المجلس». تبلغ ثورته ذروتها حين يخبرك عن الكنيسة ودورها المرتجى وإمكاناتها وواقعها. يتحسّر بألم المؤمن حين يتذكر كيف أن أحد بطاركتهم (الراحلين) صرح ذات يوم أن السبب الأبرز لهجرتهم هو طمع نسائهم بحياة أفضل في الغرب! فيما سبب الهجرة، يقول لك، هو حد السيف المصلت في الشرق. يرافقك إلى كاتدرائية قرقوش الضخمة، تلك التي يفترشها اليوم أهل الموصل. يتسلق معك أدراج السفوح نحو آخر الأديرة المحفورة في الصخر. من دير ربان هرموزد، إلى دير السيدة الأنطوني، إلى مار متى في بعشيقا حتى القديسة بربارة في مرقش. قبل أن يودعك، ينظر إلى بعيد، كأنه يرى التاريخ والآتي معاً. يقول لك بمرارة النبوءة: غداً سنرحل كلنا. إن لم يكن غداً فبعد غد. أو في أي غد آت حتماً. سنخسر كل شيء. لكن ماذا سيربحون، غير المزيد من بؤس هذا الشرق وظلمه وظلامه؟!
منذ أيام تتحقّق نبوءة ذلك المقاوم. لكن ليس من دون تعزية طبعاً. قدموا إليهم التعازي طيلة أيام المأساة وبعدها، بأن جلاديهم لا يمثلون الإسلام، وأن الإسلام والمسلمين براء منهم... تُرى، من يمثل في لحظة كهذه، ومن لا يمثل؟ وأين حدود التمثيل على الناس أو التمثيل بموتهم؟ من يمثل فعلاً، أتلك الدولة ــــ العائلة التي تقتل بجرم قصيدة أو وشم مراهق أو تسريحة شعر أو تفسير حلم؟ أم تلك الدولة الأخرى التي كادت تقتل مريم بجرم الحب، كما قتلت محمود محمد طه من قبل بجرم العقل؟ أم تلك الثورة الكبرى التي أمضت ستين عاماً من اجترارها ثورتها، في مأزق الترخيص لترميم كنيسة أو تسجيل مولود من أهل الأرض الأصيلين؟
قد يكون الصمت أكثر تعقلاً. لكن يبقى لأهل الموصل حق علينا بشهادة. هي «نحن» ما اتهمتم به، ووُسمتم. لا يتوسطها إلا حرف الحب. هي أول نصر، وآخر إنسان، هي أول النعم وآخر الوطن. هي قلب كل «أنا»، من يحيا بلا قلب. هي «نون» لنا كلنا، تحملونها عن آثامنا، نيابة عن عجزنا وفشلنا وخوفنا وضعفنا. حسبكم، أنكم لستم يهود هذا العصر لتُدمغ جدرانكم بالعار. وحسبهم أنهم نازيو هذا الزمن، ليحفر العار على جباههم مدى التاريخ والأزمان. يا شهداء الموصل، إغفروا لنا... ولهم.
5 تعليق
التعليقات
-
نعرفهم من لائحة طعامهمان لبس الذئب ثوب الحمل وإن أتى الصهاينة بإسم داعش فنحن نعرفهم من لائحة الطعام فالحمل يأكل العشب ولا تستهويه الدماء وما لمسلم أجار نبيّه المسيحيين ومجّد قرآنه عيسى "روح الله" ابن مريم والتي نفخ بها من روحه جلّ وعلا سبب او حجّه لمهاجمة المسيحيين وداعٍ لتهجيرهم لولا انه صهيوني الادارة والتخطيط والتمويل والمعلومات وصور الأقمار الصناعية وتحويل الأموال وبيع النفط وتأمين موارده وريعه. من يا تري يقوى اليوم على تحويل إيرادات الإرهاب ونفط السرقة غير صهيوني من يستطيع تأمين كل ذالك لداعش غير الصهاينة. الف حيفٍ على هذه الأمة التي تقضمها علَقةٌ مثل داعش وهي تتفرج على خيباتها المتتالية. رئيس وزراء ضعيف في بغداد، أغرته تنائج الانتخابات فظن انه زعيم، ويوم أتت داعش لم يتكلم بمنطق المواطنة التي أتت به زعيما بل بمنطق التاجر الذي خسر نفط كركوك تحرير العراق اليوم اصبح مهمة قومية لإستئصال هذه العلَقة من جسم الأمة ومعها كل الطائفيين الذين أتى بهم الامريكي وأدارهم الصهيوني كالدمى.
-
الصمت المميتمن وراء هذا الوضع الاليم و من اخترع داعش و غيرها من قبل اليست الدول الاقليمية التى تتصارع على فرض قواها على الشعوب العربية المغلوب على امرها؟ اليس من يدعى بانه الخليفة قد تدرب على ايدى الصهاينة و المخابرات الامريكية فاين الدول العربية القوية من تلك الممارسات فالسكوت من قبلهم اما مشاركتهم فى دعم تلك العصابات او انها تتغاضى عن قتل الشعوب العربية من اجل بقائها؟ لماذا لا تفضح الدول العربية المتورطة فى الامر و لماذا السكوت على خيانتها لانها ستتمادى كلما صمتنا و عضينا على جرحنا لماذا الخوف و نحن نعيشه كل يوم حتى اصبحنا ننتظر لحظة موتنا فاما المواجهة ليكون الموت شريفا و الا السكوت و دفن رؤوسنا فى الرمال كالنعامة خوفا من المواجهة.
-
المواجهة بغير الخد الأيسرالمواجهة حتمية، على أعلى المستوبات وبدون أفنعة. لطف البابا فرنسيس وتواضعه ودعواته للصلاة تصلح للأيام العادية. مؤامرة اليوم التاريخية بتحتم التصدي لها بخطوات تاريخية، تبدأ بوقفة مارد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مسمياً الأشياء بأسمائها، دالاً بوضوح على المنبع العقائدي للوحوش الداعشية وعلى من يجعلها تتفلت من عقالها. يوحنا بولس الثاني لم يكتف بالصلاة للتخلص من الشيوعية...مع ان هذه الأخيرة لم تكن أبداً من زمن ولى واندثر.
-
اغفروا لنا فقطتحية للكاتب ولمقاله الصادق مثله. أخالفه فقط في آخر كلمة: "ولهم"، ليس لهم أي غفران. هؤلاء كلاب النار، مغول العصر، لا غفران لهم. تلك الكائنات التي لا تشبه أحداً كما تشبه "الزومبيز" في أفلام الرعب. هي كائنات لا تعرف أي حدود، وليس فيها ذرة من خلق أو دين أو عقل، دع عنك بأنهم يمثلون "الدين الحق" وأنهم "خلفاء الله على الأرض" وأنهم "شعب الله المختار". هم كما وصفهم السيد حسن مرة: شذاذ آفاق جدد، يقومون بما قامت به عصابات الصهاينة الأولى ضد الفلسطينيين، ولكن بمقياس أضخم وأكبر وعلى مساحات أوسع وبطرق أسرع بسبب التكنولوجيا والتقدم في الإجرام والقتل والتخريب. لو كنتُ مسيحياً، لقلت أكثر بكثير مما كتب الكاتب العزيز جان. أما نحن المسلمون، فقد انسلخ مئات الآلاف منا عن دينهم وأصبحوا "ملحدين" بعدما رأوا "مآثر المجاهدين" في ربيع الزفت العربي وما فعله مال بلدان الغازات السامة في سوريا وليبيا والعراق ولبنان ومصر، فضلاً عن دول أخرى لم يعد يذكرها أحد كالصومال والسودان واليمن، وكله باسم الدين، حتى كفر الكثير منا بهذا الدين. أملي أن هناك من لا يزال منا على الحق والعدل. نعم! لقد أصبحوا قلة قليلة، ولكنهم ما زالوا موجودين وفاعلين ويعطون المثال الصالح والصحيح. مسيحيو المشرق هم ملح الأرض، وسكّر السماء، وزعفران الحياة. هم ورثة حضارة الإنسانية الأولى. لا حياة لنا بدونهم رغم أنف أكبر "خليفة"!
-
كلنا ن الموصلالحديث عن مأساة تهجير مسيحيي الموصل خاصة والعراق والمشرق عامة أستاذ جان لن يجرح أيقونة الفداء في غزة الجرح واحد والقاتل والظلام والمعتدي واحد نحن الذين يقتلنا صمتنا ولا نملك إلا أن نعلن رفضنا لكل الانتهاكات التي ترتكب وكل الفحيح الذي يرتفع باسم الله والله أكبر