غزة | «في الشجاعية»... بكى الرجال... وصرخت النساء... وتيتّم الأطفال، بعدما أصبحت رماداً عقب إشعالها بنيران الحقد الإسرائيلي الذي شرد عشرات الآلاف من سكانها وقتل المئات منهم، ودمر آلاف المنازل التي لم يعد يستطيع أصحابها تمييزها بعدما سويت بالأرض فلم تعد سوى «أثر بعد عين».
وحالما أعلن عن تهدئة إنسانية لمدة 12 ساعة، زحف النازحون إليها جماعات مشياً على الأقدام، كما هربوا منها تحت أشعة الشمس الحارقة. لكن هول الفاجعة لم يتوقعوه، فرائحة الموت تفوح من كل زاوية في حي الشجاعية، وجثث الشهداء ملقاة بين الأزقة وأخرى توارت تحت ركام البيوت المقصوفة.
غير أن جراحاتهم عمقت أكثر من تلك التي نزفوها وقت أُجبروا على مسابقة موت محتم. محمد أبو عمرة (33 عاماً) لم يستطع معرفة منزله من منزل جاره الملاصق به، فوقف على ركام منزل مدمر يلقي ببصره تارة بعيداً، وتارة أخرى ينظر تحت أقدامه، لعله يستطيع أن يخمّن أياً من هذه الركامات كان منزله في السابق. وبعد محاولات باءت بالفشل في بحثه عن بيته، يقول لـ«الأخبار»: «وين داري، مش عارف وينها»، كأنه زلزال قلب الأرض فابتلعت كل من عليها قبل أن تلفظ بعض الرذاذ، وفق وصف أبو عمرة.
ويضيف «ماذا لو بقينا في منازلنا، هل كل هذا الدمار سيحدث ونحن هنا، هل سيرتفع عدد الشهداء إلى مئات الآلاف، هل سيشفي ذلك غليل الإجرام الصهيوني. الله أكبر عليهم». وتتكون عائلة أبو عمرة من 30 فرداً كانوا يعيشون في منزلهم المكون من طبقتين، ويتساءل: «وين بدنا نروح، ولأيمتى راح نضلّ مشردين؟ ومين اللي راح يقدر يتحملنا فترة طويلة؟ الواحد يا دوبه حاله!».
أما أم أسامة أبو القمبز فراحت تبحث عن حليها «تحويشة عمر 50 سنة» بين بقايا منزلها الذي حالفه الحظ وبقي على أعمدته، ولكن من دون نتيجة تذكر، فراحت تبكي بحرقة وتقول: «أولاد الحرام سرقوا أرضنا ومالنا وأولادنا، هاي تحويشة عمر 50 سنة من الشغل والتعب، مشان أوفر لأولادي حياة كريمة».
ابنتها ابتسام بقيت قريبة منها تتفقد منزلها وتحاول أن تجد شيئاً من بين الركام يمكن أن يستفاد منه، وراحت تقول لوالدتها «ياما شو ذنبنا مشان يصير فينا هيك، شو بدنا نعمل وكيف بدنا نقدر نعيش»، وتابعت قولها: «ما في قدامنا وسيلة غير إنو نبني خيمة فوق بيتنا لنثبت أنو هدا بيتنا وهاي أرضنا».
جمال أبو القمبز (50 عاماً) يشارك جيرانه في انتشال شهداء من عائلة عويضة، من تحت الأنقاض. جثث تحللت بفعل عوامل التعرية بعدما تركت أكثر من أسبوع معرضة للهواء، فيما بقيت أخرى مخضبة بدمائها والتي لقي أصحابها حتفهم قبل ساعات فقط من وصول الناس إلى المنطقة، فيما بقي أفراد أحياء يصارعون الموت ولكنهم لا يقوون على الحراك فينتظرون من ينقذهم.
إبراهيم عويضة أحد المصابين، انتشله جيرانه بعدما حفروا بأظافرهم كي يخرجوه من تحت أنقاض منزله، حالما فتح عينيه راح يقول: «نار.. نار.. نار.. في بيت الدرج.. نار»، فسأله حاملوه «مال النار»، رد عليهم قائلاً: «رموا علينا نار حرقت أمي وولادي».
ويقول رامز الغولة، وهو أحد جيران أبو عويضة، «هذه العيلة كلها كانت موجودة في البيت، وهي مكونة من 40 فرداً، قصفتها الدبابات بعدة قذائف وهم موجودون فيها، وهو الذي رفع من أعداد شهدائها»، ويشرح: «ليست أول ولا آخر عائلة تعدم بشكل جماعي، فهذه هي إسرائيل».
هي ليست كالحرب الأولى ولا حتى الثانية، فحجم الدمار أكبر بكثير من أن يستطيع أحد أن يصفه وهو تفوق على كلتا الحربين مجتمعتين في حملتها التدميرية، فالمنازل دمرت بشكل كامل ولم يستطع أصحابها التعرف إليها وتمييز بعضها عن بعض.