تصل إلى بزبينا التي ترتفع حوالى 700 متر عن سطح البحر، ويشرد نظرك بتأمل تلك الجبال الشاهقة التي تزدان بأشجار السنديان المعمرة والجوز والصنوبر. تضحك في سرك، لاعتقادك أن الأخوين رحباني لم يمازحوك في أغنياتهم، فلا يزال القليل من «لبنان الأخضر» حاضراً هنا. فجأة، يعاجلك أحدهم بالسؤال «هل تبحث عن المشحرة؟». فيتبدد «حلم لبنان الأخضر» في رأسك! يلاحقك تذمر السكان في كل اتجاه. كأنهم ينتظرون إشارة ليباشروا بعرض معاناتهم. «لا نستطيع النوم من رائحة الفحم.
حالما نغلق النوافذ نكاد «نموت» من الحر، ولا أحد منا يملك مكيفاً هوائياً في منزله، ولا حتى «مروحة»! تقول إحدى سيدات البلدة. ويرفع رجل عجوز يده نحو الجبل ليدلنا إلى مكان مشاحر الفحم. يشير إلى أن «الحرج السندياني الكبير هناك، يعود للقاضي المتقاعد عبد الله بيطار. منذ سبع سنوات اشترى الحرج الملاصق له. ومنذ عام تقريباً، باشر بقطع أشجار السنديان المعمرة فيه، معللاً الأمر بأنه يملك رخصة «تشحيل وقطع» من وزارة الزراعة ويريد استصلاح أرضه». ويتابع «منذ نحو شهر ونصف، قرر القاضي أن يعمل في بيع الفحم. جهز ومعاونه الآتي من قرية قبعيت العكارية، العدة للمشحرة. قطعوا أعداداً هائلة من شجر السنديان، بأشكال متنوعة: الدائري منها، والرفيع والعريض. ووضعوها في وادي البلدة. غطوها بالرمل وأحرقوها. هنا بدأت معاناتنا. تبقى المشاحر شاعلة من السابعة مساء حتى السابعة صباحاً. تعلو الرياح الجبلية ليلاً. تحمل معها رائحة الفحم نحو القرية. يتنشقها الأهالي حتى يكاد بعضهم يختنق». أما القاضي بيطار فينكر كل ما يحدث، ويقول في حديث مع «الأخبار» إن «المسألة لا تتعدى كونها غيرة وحسداً». ويشدد على «أنا أقف أمام المشحرة وهي مشتعلة ولا أشم أي رائحة! فضلاً عن أنني أملك رخصة بإقامة مشحرة في الحرج الذي أملكه». وعندما طالبناه بالاطلاع على المستندات والتراخيص، أجاب «يملك العميد الأيوبي نسخة عنها فاطلبوها منه. أنا قاضي طويل عريض ما بعمل شي مش قانوني». لا ينفك بيطار عن تذكيرك بأنه «قاضي»، فيتسلّح بمنصبه «القديم» ليثبت لك «قانونية» عمله.

وزير الزراعة يستبعد
أن تكون الوزارة قد أعطت بيطار رخصة

يُذكر أن وزير الزراعة أكرم شهيب يستبعد أن تكون وزارة الزراعة قد أعطت بيطار رخصة لتشحيل الشجر وإقامة مشحرة في حرج بزبينا. وللتأكد، يطلب التواصل مع مدير التنمية والثروات الطبيعية في الوزارة شادي مهنا، إلا أن الأخير لم يرد على اتصالات «الأخبار». كذلك «يشك» أبناء بزبينا بأن يكون القاضي يملك رخصة. «لم يأت أحد من مصلحة الزراعة ليكشف على المكان ويجيز له اقتناء رخصة إقامة مشحرة فحم»، يقول أحد المزارعين الذي يملك مزرعة تمرّ طريقها من داخل الحرج المملوك من القاضي بيطار، ويستطرد: «بعرف إنو مشحرة الفحم لازم تكون بعيدة عن آخر بيت بالضيعة حوالى 1000 م، ما في 50 م بين بيتي والمشحرة، فكيف إجت الرخصة؟».
وبرفقة المزارع ندخل خلسة إلى حرج القاضي. أعداد ضخمة من الحطب المقطع جاهزة لتشتعل في أي لحظة. ولضخامة عددها، يرجح المزارع أن العمال بحاجة إلى وقت كبير لحرقها، أقله سنة كاملة من العمل والمشاحر. مساحات كبيرة من الحرج أُبيدت. أشجار سنديان تنحني أغصانها، وكأنها على علم بأن الفأس ستمتد إليها لتقطعها قريباً. المفارقة أن بيطار نفسه كان قد سعى الى إعلان هذه الأرض محمية قبل تقاعده، وكان «يجهد» حسب ما يقول أحد الأهالي لمنع أي شخص من قطع ولو حتى شجرة صغيرة. «عندما تجرأ أحد أبناء القرية وقطع ثلاث أشجار سنديان من أمام منزله، جعله القاضي ينام ثلاثة أيام في نظارة بزبينا» يقول المزارع. فكيف يسمح المدعي العام التمييزي المتقاعد لنفسه بأن يقطع كل هذه الكميات من السنديان ويحرقها؟
بعد مسافات طويلة من السير، نعرف أننا وصلنا إلى حيث تقام المشاحر. على الرغم من أنه قد مضى على إطفائها أيام عدة، إلا أن المكان يُعرف من رائحة الفحم التي لا تزال تغزوه. ومن على تلك التلة تظهر مباني القرية بوضوح. المشاحر قبالة المنازل. وأقربها منزل ندى. تلك السيدة التي ضاقت ذرعاً من شدة لامبالاة القاضي. توضح «لم يعد بمقدورنا السكوت عن هذا الوضع. نحن أبناء قرية واحدة، لكن لا يجوز لأي كان أن يتاجر على حساب سلامة الناس». وصل بها الأمر إلى كتابة عريضة باسم أهالي بزبينا موجهة إلى رئيس البلدية والمجلس البلدي تطالبهم فيها بالتحرك لوقف ما يحدث. وقد حصدت العريضة توقيع نحو 150 شخصاً من أبناء البلدة. أما عايدة، فقد طلب منها طبيبها أن تغادر بزبينا في أقرب وقت. تقول «نأتي إلى هنا هرباً من الحر في طرابلس، نأتي لنستريح من الضجة ونتنعم ببعض الهواء النقي. «بس حتى الهوا صار كتير على العالم إنو تتنفسو نضيف. أنا شخصياً ما رح ضل هون، الرجعة على طرابلس أشرفلي».
الضرر اللاحق بالأهالي ضرر مباشر، وفق ما يؤكد طبيب القضاء حسن شديد. يروي في حديث مع «الأخبار» أنه عالج «سبع حالات في القرية، تضررت بشكل بالغ جراء تنشق رائحة الفحم. منها سيدة ستينية كادت أن تفارق الحياة، لو لم نسعفها بالأوكسيحين في الوقت المناسب. بالإضافة إلى أشخاص يعانون من الإغماء المتواصل، أو الغثيان والتقيؤ. فضلاً عن الذين يعانون أمراضاً مثل الربو وضيق التنفس، ساءت حالتهم الصحية أكثر الآن». وإذ ينتظر شديد أن يقدم أحد الأشخاص شكوى إلى محافظ عكار، حتى يتسنى له التحرك وفق صلاحياته لحماية سلامة الناس، سعى رئيس بلدية بزبينا ميلاد أنطون إلى معالجة الأمر «حُبياً» مع القاضي بيطار. على الرغم من امتناع أنطون عن التصريح لأي وسيلة إعلامية لاعتبارات تتصل بالمفاوضات مع بيطار. وقد علمت «الأخبار» أن ثقة البلدية بوعود بيطار باتت شبه معدومة. فهو كان قد وعد ثلاث مرات سابقة، بوقف إشعال المشاحر في وادي القرية، من دون أن يفي، بل باشر العمل من جديد. ولتفادي المشاكل معه، نظراً لكونه شخصية «وازنة» في القرية، وله علاقاته وخدماته، اقترح عليه أنطون أن ينقل المشاحر إلى مكان آخر في الجبال بعيداً عن القرية، لكنه رفض بحجة أن نقلها مكلف. فوعده رئيس البلدية بدفع كلفة النقل من ماله الخاص، فرد بيطار بالرفض أيضاً. ومع تزايد الشكاوى التي تلقاها بيطار من أهالي البلدة، وعد أخيراً بأنه سيُوقف العمل في المشاحر حتى شهر أيلول، حيث يسيطر البرد، وتعود الرياح الغربية لتحمل رائحة الفحم بعيداً عن الأهالي. بدوره، قرر رئيس البلدية التريث حتى انقضاء عطلة عيد الفطر. فإن عاد إلى مزاولة العمل كأن شيئاً لم يكن، سيرفع أنطون كتاباً إلى محافظ عكار، ومصلحة الزراعة والوزارة والوزير، لإطلاعهم على حقيقة ما يجري في البلدة، لمعالجة القضية.