في ذلك الصيف من عام 1989، أنهى منذر مصري (1949) تصحيح البروفة الأخيرة من ديوانه «داكن»، ثم سلّمه إلى مديرية التأليف في وزارة الثقافة السورية، منتظراً صدوره قريباً. حمل مدير المطبعة النسخة المنقّحة من الأخطاء الطباعية إلى منزله، كي يودعها المطبعة في الغد. بالمصادفة، ألقت زوجته التي تعمل مديرة لإحدى المدارس الثانوية، نظرها على الكتاب، وراحت تقلّب صفحاته بلا مبالاة، إلى أن وقعت عيناها على بعض العبارات «الخادشة»، كما تهيأ لها، فنبّهت زوجها إلى محتويات الكتاب الملعون.
استنفر مدير المطبعة، وأجرى اتصالاته مع الجهات المختصة، فصدر أمر بإعدام الكتاب. سوء الحظ لم يتوقّف عند هذا الحد. حين نشرت مجلة «الناقد» البيروتية (1992) إحدى قصائد المجموعة، وعنوانها «ساقا الشهوة»، قررت الرقابة السورية إتلاف الصفحات المخصّصة للقصيدة، والسماح بتداول المجلة. هكذا توقّف عدّاد النشر لدى منذر مصري قسرياً، طوال عقدٍ كامل، وتراكمت مخطوطاته الشعرية، بعدما نجا كتابه الأول «بشر وتواريخ وأمكنة» (1979) من عتمة الأدراج. لكن هذا الكتاب سيكون منعطفاً جذرياً في مسار قصيدة النثر السورية، بعد البئر العميقة التي حفرها محمد الماغوط، أواخر الخمسينيات، في الذائقة الشعرية. ذلك أن معظم جيل السبعينيات، أتى قصيدة النثر من الباب الموارب، بعد تجارب طويلة في شعر التفعيلة التي عاد إليها لاحقاً، كنوع من الارتداد الجمالي. وحده منذر مصري، بالإضافة إلى رياض الصالح الحسين الذي مات باكراً، واصل تأصيل قصيدة نثر بمذاق خاص، كان بمثابة الثمار المحرّمة لجيل الثمانينيات وما تلاه، لجهة حراثة الأرض الوعرة للذات، والحفر في الظلال، وردم المسافة بين الشفوي والمكتوب. «هزائم» هذا الشاعر في النشر، لم توقفه عن الكتابة، وتفتيت صخور العزلة بمعوله الخاص والمتفرّد إلى حدود الدهشة، كما عوّض بعض خساراته عن طريق الرسم والجاز والسباحة وتشجيع فريق «حطين» الرياضي في اللاذقية التي لم يغادرها قط. هاجرت قصائد صاحب «مزهرية على هيئة قبضة يد» إلى خارج جغرافيتها الضيّقة بسطوة اختلافها أولاً، وقدرتها على التحليق بعيداً، وبات مرسمه في «حي الأميركان» في اللاذقية، محطة أساسية لكل من يزور المدينة من أصدقاء الشعر. قبل 8 سنوات، وبعد تأسيسه «دار أميسا»، تشجّع الصديق خالد خليفة بأن نفض الغبار عن قصائد منذر المتراكمة، وطبع الجزء الأول من أعماله الكاملة. هكذا شهدت أربع مجموعات النور مجدّداً، فيما تابعت مجموعات أخرى طريقها إلى بيروت، لتُنشر في «دار الريس»، ما جعل الشاعر يعلّق بالقول: «كأنه شيء يحدث لشاعر ميت»، فيما بقيت «داكن» في الأدراج. اليوم بات هذا الكتاب الملعون والمارق في متناول اليد، إذ بادرت «دار أرواد» في طرطوس أخيراً إلى طباعته، بصحبة قصيدة «ساقا الشهوة» بتوقيع «منذريوس مصريام»، مستعيراً عباءة شاعر إغريقي ضال. ليست الإيروسية نقطة الجذب الوحيدة في هذه المجموعة. هناك عوالم أخرى مخبوءة ومهملة وخشنة، وقبل ذلك كله، الاعتناء بفحص ماهية الشعر من الداخل، واختبار اللون والصوت والصمت، كأن منذر مصري يتوغّل في أزقّة، لم تختبرها أقدام الآخرين، وقد تلطّخت يداه ببقايا توت برّي، ورمال، وعريّ، وشهوات، و«غربان تفرد وتطوي أجنحتها».
لكن هل سدّدنا بعضاً من ديوننا القديمة لهذا الشاعر سيء الحظ؟ لعل فوزه أخيراً بـ«جائزة حامد بدرخان» الشعرية التي تمنحها «رابطة الكتاب والصحافيين الكرد» بعض العزاء، وإن بدا مصري، بالنسبة لبعضهم، أكثر شهرة من صاحب الجائزة (راجع الكادر). وجاء في حيثيات منحه الجائزة في دورتها الثانية التي ترأس لجنة تحكيمها الناقد صبحي حديدي: «منذ مجموعته الأولى «آمال شاقة» (1978)، يواصل منذر مصري كتابة قصيدة نثر «خفيفة الوطأة على القارئ»، كما يصرّح. «لكنها ليست البتّة متخففة من سلسلة جماليات خافية، تُحسن الوفاء لأشدّ ما تنطوي عليه القصيدة المعاصرة من مشاق التقاط التفصيل الإنساني اليومي، واللفتة الشعورية العابرة، ونأمة الواقع هنا، أو إيماءة المجاز هناك». كما «دأبت قصيدته على استيلاد تلك العناصر الجمالية المتنامية، والخصائص الأسلوبية المتغايرة، والفنون البصرية المتشابكة، وشبكة الموضوعات المتعددة والتعددية؛ التي صنعت، وما زالت تواصل صناعة، تجربة شعرية مفتوحة ومنفردة، مغامِرة ومنسرحة، شفوية لكنها لا تتنازل عن بهاء النثر ونُبله، وإيعازية لا تنكر على الفصحى مخزوناتها الدلالية والتصويرية الثرّة».
وثمّنت لجنة التحكيم ما ظلّت تعكسه قصائد مصري من «نزوع أصيل إلى امتداح الهم الإنساني اليومي البسيط، والعميق في آن على مستويات البشر والتواريخ والأمكنة؛ ومن انحياز إلى القِيَم الثقافية والوجدانية والشعورية الأسمى في الاجتماع السوري المعاصر، بمكوّناته كافة».



المغبون حامد بدرخان

خلال حياته الشاقة، تعرّض حامد بدرخان (1924ـــ 1996) للغُبن هو الآخر، رغم خصوصيته الشعرية، ومواقفه الشجاعة التي قادته باكراً إلى السجن في تركيا برفقة الشاعر ناظم حكمت. فقد عاش بدرخان في عفرين، في أقصى الشمال السوري، مهملاً ومعدماً ويائساً، وظلّت أشعاره في منأى عن النشر حتى الثمانينات، إذ تمكّن من نشر «على دروب آسيا» (1981)، و«ليلة الهجران» (1988)، فيما طُبعت أعماله الكاملة بعد رحيله.