تحت مدينة حلب القديمة تتشعب شبكة واسعةٌ من الأنفاق، تصل كل منزل فيها. يعتقد الحلبيون أن «جميعها يقود نحو القلعة. وكانت تهدف الى تسهيل هروب السكان إلى داخل القلعة في حال هوجمت مدينتهم». حقيقة الأمر، أن هذه الأنفاق عبارة عن قنوات أثرية، كانت وظيفتها (منذ أكثر من ألف عام) إيصال المياه إلى أحياء حلب القديمة.
تبدأ هذه القنوات من منطقة حيلان (بجانب سجن حلب المركزي)، التي تبعد حوالى سبعة كيلومترات عن المدينة. وكانت تجرّ المياه من ثلاثة ينابيع رئيسية، لتخترق أسوار المدينة القديمة من منطقة باب الحديد (الذي يسمى أيضاً باب القناية)، ثم تتشعب في شبكة مبنية ومحفورة بعناية لتراعي سهولة تدفق المياه وفق نظرية الأواني المستطرقة، ثم يتوزع جزءٌ منها على مناهل عامة، تسمى «السبلان» ومفردها «سبيل». ويتوزع الجزء الأكبر على بيوت المدينة القديمة، لتغذيها عبر أنابيب فخارية. وكان العامل على توزيع وصيانة هذه القنوات يسمى «القنواتي». وما زالت أسرة حلبية تُعرف بهذه الكنية، نسبة إلى تلك المهنة.
في مطلع القرن العشرين جفّت الينابيع الثلاثة، وشهدت فترتا الاحتلال العثماني والفرنسي محاولاتٍ كثيرة لجر المياه من ينابيع أخرى إلى المدينة، بواسطة قساطل معدنية. في بداية خمسينيات القرن العشرين تم تنفيذ مشروع جر مياه الفرات إلى حلب. وفي المحصلة، باتت القنوات الأثرية خارج الخدمة منذ مطلع القرن الماضي. وأغلقت فتحات الدخول إليها (فتحات جانبية على امتدادها، كانت تُستخدم في صيانتها). مع بدء شق الطرق الأسفلتية الحديثة في المدينة القديمة تعرضت القنوات لتخريب شديد. وجاءت مشاريع الصرف الصحي وتمديد أنابيب المياه المعدنية وشبكات الكهرباء والهاتف لتخرب معظم تلك الأنفاق، وتقطع أوصالها. حيناً بقصد، ومعظم الأحيان من دون قصد، نتيجة غياب التخطيط السليم.
في ثمانينيات القرن الماضي حاول مسلحو الإخوان المسلمين استخدام ما تبقى من الأنفاق التاريخية للتسلل عبرها، وتنفيذ عملياتهم. فقامت وحدات الجيش السوري حينها بتلغيم وتفجير ما تبقى سليماً منها.

أنفاق اليوم

يعتقد البعض أن المسلحين يستفيدون في تنفيذ هجماتهم من شبكة الأنفاق التاريخية. وهو اعتقاد لا أساس له من الصحة. فجميع الأنفاق التي استُخدمت خلال الحرب الراهنة هي أنفاق حديثة. ومن المعروف أن معظم الأحياء الحلبية (القديمة منها على وجه الخصوص) مبنية على أرض كلسيّة.

في الثمانينيات
حاول مسلحو «الإخوان» استخدام الأنفاق التاريخية للتسلل

صخورها هشة مقارنة بأنواع الصخور الأخرى. ويقوم المسلحون بحفر أنفاقهم فيها بواسطة «كمبريسة» صغيرة، تُغذى بالكهرباء بواسطة مولد صغير، ونقل الركام الناتج من الحفر يدوياً. ونظراً إلى تلاصق مواقع سيطرة المسلحين مع مواقع الجيش السوري، لا يزيد طول النفق في معظم الأحيان على ثلاثين أو أربعين متراً. ولا يزيد عمقه تحت سطح الأرض على ثلاثة أمتار. يستغرق حفرُ النفق الواحد أسبوعاً أو اثنين على الأكثر (تبعاً لعدد ساعات الحفر اليومي).
مصدر متابع يوضح لـ«الأخبار» أنّ «الطريقة الأمثل لحماية المواقع من استهدافها عبر الأنفاق تتمثل في حفر أخاديد حول الموقع المطلوب حمايته. بواسطة آليات ثقيلة وبعمق حوالى عشرة أمتار. والحرص على ضخ كميات من المياه فيها باستمرار، لمنع الحفر تحت الأخدود». ووفقاً للمصدر، هذه «هي الطريقة التي منعت حفر الأنفاق تحت قلعة حلب التي يحيط بها أخدودها الأثري التاريخي. والذي ما إن يبدأ الحفر فيه حتى تنبع المياه الجوفية من قاعه».




تفجير مبنى «السرايا» التاريخي

ثلاثة تفجيرات ضخمة هزّت المدينة القديمة أول من أمس. أطاح اثنان منها مبنى «السرايا» التاريخي، (كان سابقاً يضمّ مكاتب المحافظة وقيادة الشرطة، قبل أن تُنقل الأولى إلى القصر البلدي والثانية إلى منطقة المارتيني)، وألحق الثالث أضراراً جزئيةً بجامع الخسرفية وخان الشونة. مصدر ميداني سوري أوضح لـ«الأخبار» أن «أول التفجيرات تم بواسطة نفقٍ يمتد من جهة القصر العدلي إلى السرايا، والثاني عبر نفق يمتد نحو المبنى ذاته من جهة مبنى الأوقاف»، ما أدى إلى «تدمير نصف المبنى التاريخي». أما التفجير الثالث فاستهدف «حاجزاً للجيش بجوار جامع الخسرفية قرب مدخل خان الشونة، وأدى إلى تهدم جزء من الجامع، فيما لم يتأثر خان الشونة». المصدر أكد أن «المسلحين شنوا هجوماً كبيراً بعد التفجيرين بغية السيطرة على ما تبقى من مبنى السرايا، وعلى خان الشونة، فتم فتح نيران الرشاشات عليهم وقُتل منهم حوالى 25 وتراجع الباقون». ووفقاً للمصدر «سقط في تفجيري السرايا ثلاثة شهداء من الشرطة، وسبعة شهداء من الجيش في تفجير حاجز خان الشونة».
تعود جذور مبنى «السرايا» إلى عام 1914، إذ قرر العثمانيون بناء دار جديد للحكومة في حلب، مقابل قلعتها. وفي عام 1917 بدأ حفر الأساسات، لكن ظروف الحرب العالمية الأولى وخروج العثمانيين لاحقاً أوقفا متابعة المشروع. عاد المبنى إلى الواجهة في ظل الاحتلال الفرنسي عام 1927. تم وضع الحجر الأساس مجدداً في أيلول 1928، واستمرت أعمال البناء حتى نهاية عام 1933. ضم البناء مقر والي المدينة، وقيادة الشرطة، والمحاكم، ومعظم الدوائر الحكومية. ومن شرفته أُعلن استقلال البلاد، وجرت أمامه احتفالات الجلاء. وفي تشرين الأول 1984 سجّلته وزارة الثقافة السورية في قائمة المباني الأثرية.