غزة | من الواضح أن المقاومة الفلسطينية في غزة تقاتل والأطراف الإقليمية العربية ضالعة في المؤامرة ضدها. هذه هي الحقيقة التي لم يعد أحد من أركان النظام العربي مهتما بإخفائها، فلقد حسم النظام الرسمي موقفه مما يحدث في غزة مبكراً قبل بدء العدوان، إذ لم نعد نلاحظ صمتا عربيا فحسب كما كان عليه الأمر في السابق، بل تحول هذا الصمت العربي إلى كلام على المستويين الرسمي والإعلامي.
ما قيل عنها إنها مبادرة مصرية، تطالب غزة، بعد كل هذا العدوان، بقبول وقف النار والعودة إلى حصارها، وذلك في انتظار مفاوضات معروفة نتيجتها سلفا، وبعدما ساوت الورقة المصرية بين الضحية العربي والجلاد الإسرائيلي، جاء ذلك جليا في تنديد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بما سماه «تعنت الطرفين». أما الموقف السعودي، فلم يعد هناك أوضح منه، وذلك قبل أن يبرئ وزير خارجية «خادم الحرمين»، إسرائيل، من تهمة العدوان على الشعب الفلسطيني، حينما ألقى باللوم على مقاتلي الحرية، معتبرا إياهم مسؤولين عن إراقة الدماء في غزة.
اللافت في الموضوع أن إسرائيل قبلت الورقة المصرية، بل يقال إنها شاركت في صياغتها معتمدة على تأكيد مصري بأنه ليس أمام الفلسطينيين سوى قبولها. إذن، لأول مرة نحن أمام تحالف معلن بين إسرائيل وأطراف عربية مركزية في الإقليم، وهدف هذا التحالف تدجين الفلسطينيين لقبول حصارهم والتعايش معه، تمهيدا لقبولهم كل ما يملى عليهم، سياسيا، في وقت قريب، بل إننا أمام موقف إعلامي هابط تدعمه نخبة مثقفة مصرية، بحيث اننا صرنا نرى كل يوم هجوما إعلاميا مصريا على كل ما هو فلسطيني. وليس توفيق عكاشة ولميس الحديدي وحدهما في هذا المضمار، وإن كانا الأكثر وقاحة.
يبقى السؤال: ما السبب؟ الحقيقة أن أهم أسباب هذا الموقف المعلن هو «فوبيا الإخوان»، المرض الذي مُنيت به مصر، شعبيا ورسميا، بعد ما حدث في القاهرة خلال عام الإخوان. لقد قيل آنذاك الكثير عن تدخل حركة «حماس» في ما يحدث في مصر، وهو ما لم تثبت صحته حتى الآن أي جهة قضائية مصرية، بل إن هذا القيل الكثير لم يتوقف عند نقد الجهة المتهمة (حماس) بل تعداه إلى اتهام وشتم كل ما هو فلسطيني دون أي محاولة رسمية مصرية للتوضيح، ما يشي أيضا بأن المؤسسة الرسمية المصرية كانت من وراء ذلك، مشجعة، إن لم تكن هي التي أوحت بذلك أصلا. كل ما مضى يؤكد أن الشعب الفلسطيني مقبل على مرحلة عربية صعبة، وخصوصا بعدما رأينا كيف حاولت هذه الأركان «العربية» الاستفراد بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، وجره نحو مربعها لولا أن أبو مازن انتبه إلى حجم المؤامرة، وأعلن انحيازه إلى شعبه والمقاومة في لحظة فاصلة. ومن هذا الموقف، جرى ما يمكن أن يكون بداية الضغط السياسي الفلسطيني لتعديل بنود الورقة المصرية.
أما الأطراف الفعالة الأخرى في الإقليم، «حزب الله وسوريا وإيران»، فقد بدا موقفها واضحا في دعم غزة والمقاومة برغم كل النتوءات السابقة في العلاقة بينها وبين «حماس». هذا الموقف كان وفق الآتي:
1ــ الرئيس السوري، برغم ألمه من موقف الحركة، يؤكد أن ما يحدث في غزة حلقة في سلسلة متكاملة تخطط لها إسرائيل ودول الغرب لفرض الاستسلام والتقسيم على العرب.
2ــ السيد حسن نصر الله أكد شخصيا من بيروت، قبل أيام قليلة، أن حزب الله لن يبخل على غزة بأي نوع من أنواع الدعم الذي يستطيعه.
3ــ إيران من جهتها، وعلى لسان مرشد الجمهورية السيد علي الخامنئي، ورئيسها حسن روحاني، وتظاهراتها المليونية، تندد بالعدوان، وتؤكد دعمها المقاومة.
بكل بساطة، يمكن فهم أن حلف المقاومة في طريقه إلى الترميم بعد أحداث غزة، وبالقوة نفسها التي بدت فيها عورة الورقة المصرية بادية للعيان، وخصوصا بعدما حسم عباس موقفه ولم تعد «مصر الرسمية» تستطيع الادعاء أن أبو مازن قبل ورقتها فيما رفضتها المقاومة. في المجمل، يتكامل موقف كل من سوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، إضافة إلى عباس، على رفض الإجماع الرسمي العربي على ورقة الاستسلام المصرية. وهذا يُحسب لقوى المقاومة وأبو مازن معا.
ما المطلوب الآن؟ أن تتلقف «حماس» هذا الموقف وتبني عليه في المستقبل القريب، ربما حتى قبل أن تتوقف المدافع. لأنه يمكننا أن نقول الكثير عن موقف «حماس» مما حدث في سوريا ومصر. وبغض النظر عن اختلافنا معها هنا أو هناك، لكننا نجد أن من حقها علينا، ومن حقنا عليها، أن نقترح ما يأتي:
1ــ ربما أخطأت «حماس» في تعاملها مع الشأن المصري أيام الرئيس المعزول محمد مرسي، فما كان لنا أن نعلن موقفا إلى جانب هذا الطرف في مصر أو ذاك، تحت أي ذريعة أيديولوجية، لأن فلسطين أكبر من الأيديولوجيا. يمكن القول إن الحركة سبق أن قدمت في القاهرة عرضا طفوليا ساعد أطرافا انعزالية مصرية، كان أنور السادات تاريخيا قد شجعها، لإعلانها التخلص من «العبء الفلسطيني».
2ـ أيضا ربما أخطأت «حماس»، وأخطأنا معها، في التسرع في دعم المعارضة السورية ضد نظام لا يجادل أحد في أجندته العروبية السورية الفلسطينية مع قوة دعمه المادي العسكري والسياسي للمقاومة، برغم كل ما يكنه لتنظيمها الأم «الإخوان المسلمون». كل الوقائع على الأرض كانت تشير إلى أن ما يسمى «المعارضة السورية» كانت مدعومة من أميركا وإسرائيل، لتفتيت سوريا وما تمثله.
3ــ خروج «حماس» من سوريا، وما تلاه من توتر العلاقة مع طهران، كان انكشافا مجانيا للمقاومة أمام أعدائها، ولا يبرره ما يقال عن قبول حماس مطالب مكتب الإرشاد في القاهرة، فلقد كان عاما غبيا ذاك العام الذي حكم فيه الإخوان مصر.
من هنا نطالب حماس، ومعنا كثيرون داخلها وخارجها، بالسعي القوي والسريع إلى إعادة بناء محور المقاومة ترميما لما انهدم، وخصوصا بعد كل ما رأيناه من مواقف مبدئية لهذه الأطراف خلال الحرب على غزة. وكل هذا الدم، وهذه البطولات، تستدعي منا أن نقف لنعيد حساباتنا، من أجل الله وفلسطين وشرف الأمة الذي مرغه حكامها بالتراب.