تونس | تتزامن ذكرى ولادة مؤسس الجمهورية التونسية الحديثة الحبيب بورقيبة، للعام الثاني على التوالي، مع موجة الاغتيالات التي تستهدف الجيش والأمن، إضافة إلى تزايد المخاطر من الجانب الليبي. وبموازاة هذه التطورات، وجد الشارع التونسي نفسه مضطراً للعودة إلى البورقيبية، للتعويض والإقرار بفشل الحكام الجدد، الذين جاءت بهم «ثورة» يزداد شك التونسيين في حقيقتها وخلفياتها، خصوصاً بعد فشل هؤلاء في تحقيق الحدّ الأدنى من مطالب الشارع الذي انتفض على الرشوة والفساد والبطالة وارتفاع الأسعار، لكنه اصطدم بواقع أسوأ وبالإرهاب الذي يهدد استقرار تونس ويحصد أرواح شبابها من جيش وأمن السياسيين.
ومنذ أن أُقيل من الحكم، في ٧ تشرين الثاني عام 1987 من قبل وزيره الأول الجنرال بن علي، لم يحضر أي وزير ذكرى ميلاد الحبيب بورقيبة (الذي ولد في ٣ آب ١٩٠٣ وتوفي في ٦ نيسان ٢٠٠٠)، ولكن الاستثناء حصل الأحد الماضي، عندما أشرف وزيران من حكومة التكنوقراط على مراسم رسمية في ضريح بورقيبة. وحضر وزير الثقافة مراد الصقلي ووزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيا الاتصال توفيق الجلاصي، مراسم قراءة الفاتحة على الضريح.
إشراف الوزيرين على إحياء ذكرى مولد مؤسس الجمهورية التونسية الحديثة، بعد سنوات طويلة من التغييب والتجاهل، هو ترجمة لمزاج الشارع التونسي. فسنوات التغييب القسري، التي استمرت طوال حكم بن علي وحكم الترويكا، لم تتمكن من قتل الزعيم التونسي في ذاكرة شعبه. حتى إن الذين سجنهم ومنعهم من الدراسة ووضعهم في المعسكرات في الصحراء، ظهروا على أنهم الأكثر دفاعاً عن بورقيبة ودعوة للبورقيبية الجديدة، باعتبارها المنقذ لتونس.
ولهذا السبب، أصبح حضور رموز الدساترة الذين كانوا ممنوعين شعبياً من النشاط، في الأشهر الأولى، التي أعقبت «ثورة يناير» لافتاً للانتباه. فبعدما كانوا من المنبوذين، أصبحوا يقدّمون أنفسهم كمنقذين. ويمكن أن يكون ثلاثة من رموزهم في نظام بورقيبة وبن علي، من بين المرشحين للانتخابات الرئاسية، وهم الباجي قائد السبسي وكمال مرجان ومصطفى كمال النابلي، الأمر الذي يؤكد العودة القوية لرجال بورقيبة زعيم الحركة الدستورية وباني دولة الاستقلال.
وفي هذا الإطار أيضاً، تميزت الذكرى الحادية عشرة بعد المئة لمولد بورقيبة، التي أحيتها تونس، الأحد، باحتفاء غير مسبوق من قبل الجمعيات والمنظمات ومراكز الأبحاث، التي يشرف عليها يساريون عانوا من «الحكم الأوحد».
ومن بين المعاهد الجامعية التي بادرت لإحياء ذكرى الزعيم الراحل، معهد التراث في كلية الآداب والفنون والإنسانيات في منوبة، الذي يديره عبد الحميد الأرقش، وهو من القيادات التاريخية لليسار. وقال الأرقش، خلال افتتاح ندوة بعنوان «بورقيبة يعود» إن «العودة إلى بورقيبة، هي محاولة لتصحيح موقفنا منه، هو الذي كان يمثّل العصا الغليظة والأبوّة الشاملة»، مضيفاً أن «ظهور صور الزعيم في الشارع وعودته القوية إلى الحياة اليومية للتونسيين، بعد كانون الثاني ٢٠١١، أكدت أنه لا بدّ من إعادة النظر في الموقف من الزعيم».
أما حمادي الرديسي، وهو أحد مثقفي اليسار، فقال إن «تونس تحتاج إلى البورقيبية الجديدة، لأن بورقيبة نجح في تحديث المجتمع، لكنه فشل في المسألة الديموقراطية».
ولم يختلف موقف الأمين العام لحركة «نداء تونس» الطيب البكوش، الذي سجنه بورقيبة مطلع الثمانينيات عندما كان أميناً عاماً للاتحاد العام التونسي للشغل، عن هذا الموقف. وقال في تصريح للصحافيين على هامش زيارته ضريح الزعيم في مدينة المنستير الساحلية، إن «بورقيبة من طراز القادة الكبار في العالم، الذين غيّروا مجرى التاريخ، وكان زعيماً كبيراً أحب بلاده وأخلص لها رغم فشله في تحقيق الديموقراطية».
لكن هذه المواقف النابعة من اليساريين الذين تحولوا إلى بورقيبيين، أزعجت بعض الدساترة من أنصار الزعيم الراحل، الذين لم يغفروا لليسار إسهامه الكبير في إسقاط نظامهم في ١٤ يناير وإقصائهم عن الانتخابات الماضية وطردهم من مواقعهم الإدارية والزج بعدد كبير من قياداتهم في السجون.
ورغم هذا الانطباع العام يرى بعض رموز الدساترة، أن اعتراف اليسار بقيمة بورقيبة هي شهادة مهمة، رغم أنها كانت متأخرة. وقال الكاتب والناشط السياسي جعفر الأكحل الذي أُقصي من الحياة السياسية بعد انقلاب ٧ تشرين الثاني 1987، لـ«الاخبار»، إن بورقيبة «ليس ملكاً للدساترة ولا لمدينته المنستير، بل لكل التونسيين وللأمة العربية، باعتباره زعيماً ألمعياً، كان سابقاً لعصره ونجح في أن يجعل من بلاده على صغر حجمها وتواضع إمكاناتها، بلداً محترماً في العالم».