رغم التهويل والتهويل المضاد من خطر حزب الله والخطر التكفيري المحدقين بالحرية في هذا الشرق، لم تبالِ غالبية المقيمين في السفح الغربي من جبل صنين، لا بسلاح المقيمين في المقلب الآخر من الجبل نفسه ولا بمخاوفهم. حافظت الحياة على روتينها هنا: ما يكسبونه نهاراً ينفقونه مساء... وحبة مسك. لم يتجاوز الاهتمام بالتكفيريين حدود استغراب فتاواهم.
لم يشعر أحد أن رأسه قد يكون محل ذلك الرأس الذي تتقاذفه الأقدام في أحد الفيديوات، ولم يبالوا باندفاعة جيرانهم إلى ما يصفونه بـ «الحرب الاستباقية» ومواكب شهدائهم العائدين من تلك الحرب وروايات مقاتليهم عن مجانين يندفعون صوبهم بالمئات مزنّرين بالمتفجرات.
فجأة، وخلال أقل من 24 ساعة، تغيّر كل شيء: لم تكد أجراس الهواجس المتضامنة مع مسيحيي الموصل تهدأ، حتى أطل «الداعشيون» من عرسال. بدا الخطر «الداعشيّ» أقرب بكثير مما كان كثيرون يعتقدون. انهالت الأسئلة عمّا يميز عكار والمنية وطرابلس وصيدا عن المدن والأرياف السورية والعراقية والمصرية (والليبية واليمنية) لتنجو من الجنون «الداعشيّ»؟ وما الذي يحول دون تكرار سيناريو نينوى في أكثر من منطقة لبنانية؟ وماذا سيحصل غداً؟ يمكن قدامى القوات اللبنانية أن يسارعوا إلى عرض خدماتهم الدفاعية، ويمكن بعض المصابين بعوارض «جَهْلة الستين» أن يقولوا إنهم قادرون على «تكسير» أكبر رأس.

لا أحد يريد أن
يقتنع أن روكز أبعد ما يكون عن الضابط المتمرد على قيادته

لكن لا هذا يطمئن القلقين، ولا مزايدات السياسيين المستمرة: لا أحد يهمه الآن تذكير القوات الدائم باستشهاد الملازم الطيار سامر حنا بنيران حزب الله، و«تمريك» النائب نبيل نقولا على خصومه بأسبقية التيار في التحذير من «الداعشية»؛ ثمة خطر داهم يحتاج الرأي العام من يقول له إنه قادر على الوقوف في وجهه. كان يمكن قائد الجيش العماد جان قهوجي أن يلتقط اللحظة. إلا أن أداءه المتردّد في إطلالته الاعلامية الأولى وافتقاده للكاريزما والبيان غير الشعبوي حالا دون تعليق الرأي العام آمالاً عليه. لم يبقَ للأمل بدحر هذا الكابوس سوى اسم واحد: قائد فوج المغاوير شامل روكز.
اجتاح اسم الرجل وصوره المواقع الإلكترونية التي حفلت بدعوته إلى إغلاق خطّه الهاتفي والإطباق على التكفيريين من دون أن يبالي بأحد. حل شبحه ضيفاً رئيسياً في أحاديث غالبية الصالونات. خابت توقعات من اعتقدوا أن الجمهور المسيحي، بعد تجربتي إميل لحود وميشال سليمان غير الشعبيتين، تجاوز عقدة القائد العسكري. من ملأوا الأوتوستراد، من البترون إلى الدورة، لحمل الضباط العائدين من نهر البارد على أكتافهم قبل ست سنوات، مستعدون اليوم لفعل أكثر من ذلك بكثير. يومها، كان نهر البارد مجرد مخيم فلسطيني بعيد. اليوم، بلداتهم ومنازلهم وأسرهم ونمط حياتهم... كل ذلك مهدّد. لم يحتج روكز إلى النطق ولو بكلمة واحدة. فجأة ما عاد أحد يبالي بما ستفعله قيادة الجيش والعناصر، الكل يتطلع إلى ما سيفعله شامل. التسويات المحتملة في مكان، وشامل في مكان آخر. يبدو ذلك في غاية الغرابة، كيف يمكن الرأي العام التعويل بهذا الشكل على شخص لم يسمع صوته من قبل ولا اطلع على أفكاره. لا يتقدم اسمه في النقاشات رتبته العسكرية أو غيرها: «شامل»... هكذا «حاف»، على غرار «الباش». لا أحد يريد أن يصدّق أن ما من ضابط قادر على تنظيف تورا بورا اللبنانية، حتى لو أغلق هاتفه وامتلك إقدام الانتحاريين. ولا أحد يريد أن يقتنع أن روكز، طوال مسيرته في المؤسسة العسكرية، كان أبعد ما يكون عن الضابط المتمرد على قيادته، فكيف الحال في الأشهر القليلة المتبقية له قبل بلوغه سن التقاعد. ناهيك عن السؤال «الطبيعي» عما سيدفع روكز إلى إخراج قهوجي من المستنقع الذي أوقع نفسه فيه، لو كان فعلاً قادراً على ذلك. خصوصاً أن «نياشين» التكريم بعد معركته ضد جماعة أحمد الأسير في عبرا عُلّقت على صدر قائد الجيش لا على صدره. لا مكان لدى المتحمّسين لكل هذه الأسئلة: ثمة قائد، تقول إحدى الروايات، إنه كان يركض بصحبة كلبه في التلال الكسروانية، فتوفي الكلب من شدة التعب قبل أن يتوقف هو عن الركض. وتعجّ روايات أخرى بأحداث أكثر سينمائية من هذه، مستمدة من معارك الجيش مع القوات اللبنانية.
عونياً، بلغ الولع بقائد نمور الوطنيين الأحرار سابقاً في ثكنة اللقلوق ــــ الذي أقنعه داني شمعون والعماد ميشال عون يوماً أن يضع ثقته ونفسه في تصرف المؤسسة العسكرية ــــ حد الأسطرة مرة أخرى. هذه الموجة العونية جرفت معها كثيرين من خارج دائرتها، من الباحثين عن بصيص أمل يتيح لهم تأجيل توضيب حقائب السفر. شامل روكز اليوم أشبه بميشال عون 2005. لا يجد اللاهثون خلف طمأنينة ما تعيد ثقتهم بمستقبل بلدهم غيره. مع العلم أن قائد فوج المغاوير فتح منذ أكثر من ثلاثة أعوام أبواب ثكنته في رومية أمام كثير من رؤساء المجالس البلدية والفعاليات السياسية ومديري المدارس والجامعات والإعلاميين ورجال الأعمال والنواب والمرشحين إلى الانتخابات النيابية وغيرهم ممن يودون الركون إلى صداقة تطمئنهم من دون الاستزلام لمعراب أو الرابية. وهو ذهب عند المترددين في المجيء، عبر تجواله مع مغاويره على المدارس والجامعات وعشرات البلدات. وحوّل ماراتوناً تقليدياً لفوج المغاوير إلى تظاهرة سنوية للمولهين به. وسدّ متأخراً، بعد التمديد لقهوجي، الثغر في علاقاته السياسية، فانفتح اجتماعياً ــــ تحت سقف القانون العسكري ــــ على حزب الله لتتعدد السهرات وتطول. في ظل إجماع من يعرفونه على القول إنه دفع ثمن مصاهرته للعماد عون، فيما الآخرون يقبضون ثمن مصاهرتهم الزعماء. ومقارنة بالوزير جبران باسيل، يبدو لافتاً هذا التضادّ: فشل باسيل باختراق قلب الحالة العونية رغم كل الؤتمرات الصحافية، يقابله نجاح روكز من دون بذل أي جهد يذكر (لا بل هو يحرص على النأي بنفسه عن كل ما له علاقة بالتيار الوطني الحر). ونقمة الأفرقاء السياسيين المختلفين (باستثناء تيار المستقبل) على باسيل، تقابلها علاقة وطيدة جداً بين روكز وهؤلاء.
تجاوز الأمر، هذه المرة، الحماسة الشعبية السابقة لروكز خلال معركة عبرا. وفي ظل إحجام الآخرين عن تقديم حلول، يبدو واضحاً أن اشتداد المخاوف سيوسع رقعة الضوء حوله. من يحاسبون العماد قهوجي على ما لم يفعله، يحاسبون روكز على ما يفترضون أنه كان سيفعله. يتجاوز الأمر العونيين وأنصار حزب الله المتفاعلين مع حلفائهم، ليشمل كل من لا يثقون بالطبقة السياسية، ويودّون إقناع أنفسهم بأن الحياة هنا لا تزال ممكنة. ولعل روكز يعلم أن هذا كله سيتغير في حال تقاعده بعد أشهر قليلة، قبل فوزه بقيادة الجيش. حينها سيفقد كل الزخم الشعبي الذي يعلّق آمال الخلاص من التكفيريين عليه، ولن يبقى له سوى بعض الأصدقاء ليحاول معهم حجز مكان لنفسه في مستقبل التيار الوطني الحر الموزع بين كتلة النواب العونيين والمسؤولين السابقين المتماسكة وشبكة رجال الأعمال المتغلغلة في بعض الأقضية. وعليه، ليس لدى قائد فوج المغاوير وقت كثير لإعادة كتابة مستقبله.