عام 1965، كان الهروب الأول من عرسال إلى مخيّم تل الزعتر الذي نُكب لاحقاً، هرب أبو حسين عز الدين بأطفاله من الحرب الدائرة عند «حدود» بيته. لجأ إلى الدار «اللي فيها متلنا». لكنه، سرعان ما كان الهروب الثاني إلى أحد البساتين في بئر حسن، والذي صار اليوم زاروباً يضيق بنازحين أبديين. هناك، في الحي المحشور بفقرائه، بنى عز الدين أول حياة في بستان الحمضيات.
وشيئاً فشيئاً، لحق به بعض الأقارب وبنوا حيوات على الطريقة التي بناها غيرهم من النازحين من الأرياف، هرباً من فقر أو من حرب. بعد 38 عاماً من الهروب المتلاحق، صار لـ«العراسلة» حي يسكنونه ليلاً ويتركونه صباحاً إلى لقمة عيشهم. حي تقطنه اليوم ثلاثون عائلة، جلّها من آل عز الدين، من دون أن يقطعوا قرابتهم بالضيعة. في الأزمة الأخيرة، التي استحالت معها صورة عرسال على غير ما يشتهي أهلها، لجأ كثيرون إلى الحي حيث يعيش «العراسلة» في جيرة أبناء صلحا الجنوبية ــــ تماماً كما كانوا في قريتهم بجيرتهم لبلدة اللبوة ــــ لا يبدو الاختلاط مألوفاً إلا للقاطنين في ذلك الزاروب، الذي تعيش في أوله عائلة «شهيد في الحزب»، يقول أبو حسين. هنا، «نعيش معاً»، وهناك أيضاً. ولكن، فيالأزمة الأخيرة، صار العراسلة «مشبوهين»، يقول. 40 ألف مشبوه بسبب صورة تلفزيونية وأخرى صنعها «الزعران». ترك أبو حسين بيته في عرسال قبل أربعين عاماً مرغماً بسبب الحرب والفقر. أسس حياة «مستورة» على هامش المدينة.

صورة عرسال على شاكلة هؤلاء المنتظرين لوظيفة الدولة

اليوم، يبلغ الرجل 82 عاماً من العمر، عاشها كلها «الحيط الحيط ويا ربي السترة». تماماً، كما كثيرون من أبناء بلدته المقيمين هناك أو النازحين منهم. هم في النهاية فقراء «وطول عمرهم تحت سقف الدولة». يروي تفاصيل عمره، التي تشبه «تفاصيل أي عرسالي آخر»: «ولدنا في عرسال. عملنا، كغيرنا من أبناء القرى، في الزراعة وفي الرعي وطول عمرنا كنا عمال». هناك، في عرسال، لا تزال الزراعة هي الأساس، ومعها العمل في المقالع ومناشير الصخر. هذه مقومات الحياة هناك، ومن «تفتّح» منهم، انتسب إلى السلك العسكري، بعد أن «يدفع مبلغاً مرقوماً»، هو ثمن قطعة أرض في غالب الأحيان. هكذا، عاش أهل عرسال، كما المناطق المجاورة وحدهم. من «طفر» منهم إلى المدينة، أسس عملاً على «قد الحال». في كلتا الحالتين، لم تكن «الدولة» حاضرة. عرسال «ظلمت»، إن كان في الحادثة الأخيرة أو منذ ستينيات القرن الماضي.
الدولة «محقوقة» في كثير من الأماكن في ترك الفقراء وحدهم. «هي مسؤولة عن الصورة التي صرنا عليها، عندما لم يتفق السياسيون على إقامة مخيمات للنازحين تحت سلطة الدولة، وبطبيعة الحال كان لا بد لعرسال من أن تكون النقطة الأقرب للنازحين كونها على الحدود». الدولة «تعرف أن في الجرد مئات المسلحين، ليش ما أخدت إجراءاتها؟». ولكن، هل هي الدولة وحدها؟ يجيب العراسلة: لا. ثمة مسؤولون آخرون. «الإعلام. زعران البلدة. المغرضون. كل هؤلاء مسؤولون». يقول العراسلة: «عرسال انظلمت، نحن ضحايا تماماً كما الجيش، ولا علاقة لنا بالغرباء الذين استباحوا بيوتنا». «عرسال لم تقاتل الجيش. عرسال فيها 4500 عسكري». يقول أحد القاطنين في الحي «أنا عندي 5 أحفاد يطلبون التطوع في السلك العسكري، فكيف لنا أن نكون ضد الجيش؟». صورة عرسال على شاكلة هؤلاء المنتظرين لوظيفة الدولة كي تقيهم العوز.
يبدأ حديثه عن عرسال من حدودها. من هنا «اللبوة والقاع ويبرود وفليطا و و و و». كل هؤلاء «جيراننا ونسجنا معهم علاقات مصاهرة، نحن أخوالنا من اللبوة». هذه أبسط الأمثلة. ليس هذا فحسب، فأهل اللبوة يقصدون عرسال للعمل في المقالع و«مكنات بيت جعفر» أيضاً في مناشر الصخر تعمل. وهم أيضاً يقصدون تلك المناطق. لا خطوط تماس هناك. الجيرة أساس. وهذه تحتمل الكثير من الود ومن العلاقات التي نسجها هؤلاء على مر السنين. ما جرى في الفترة الأخيرة أوحى بعكس ما يعيشه الناس في عرسال. ولكن، في النهاية «عندما تنتهي الأزمة رح نرجع نعيش مع بعض». لا فرار من تلك الجيرة.
«لسنا إرهابيين ولا نؤوي إرهابيين». يشيرون إلى منزل عبد الله عز الدين الذي استشهد في انفجار «دوار السفارة الكويتية». هذا دليل. هؤلاء ناس كغيرهم «همنا لقمة العيش». فلنسرد هموم بعضهم. أبو حسين عز الدين همه اليوم كيف يروي 4 آلاف «كعب» من الأشجار المثمرة هي كل «تحويشة» العمر. وهمّ باسل كيف يلتحق بالسلك العسكري قبل أن تغلبه سنوات عمره. وهمّ آخرين كيف يجنون لقمة العيش. في عرسال، فقراء «أكثر بمئة مرة من النازحين السوريين، لماذا لم يروا صورة فقرنا مثلاً؟»، يقول باسل عز الدين. هم يعرفون أن لا أحد يرى غير عرسال، الخارجة عن القانون. صورة غلبت الكل. مئات من العراسلة «صبغوا» بأفعالهم حيوات آلاف آخرين. فحفيد أبو حسين مثلاً «اللي شكلو ما بيوحي إنو من عرسال» لم ينجح حتى في العمل كناطور مبنى لأنه من عرسال. هم أناس عاديون، و«كل بلد فيها كفاتها من الزعران وليسوا الكل». في حالة هؤلاء، لم يعد ثمة ما يمكن أن يحمي العرسالي من الصورة التي ألصقت به. هل ثمة من يعرف بأن أهل عرسال عندما حملوا أرواحهم هاربين من الحرب الدائرة في بيوتهم احتموا في بيوت أهل اللبوة؟ هذا ما فعله العراسلة، وما قاله سكان الحي البيروتي بودّ.