حصلت المؤسسة العامة للإسكان على سلفة خزينة بقيمة 30 مليار ليرة لسداد المتأخرات المترتبة عليها للمصارف. ووفق المعنيين بهذا الأمر، فإن دفع المبالغ للمصارف المعنية سيبدأ في مطلع الأسبوع المقبل، علماً بأن لا وعود لدى أي جهة بألا تتكرّر هذه الأزمة أو «تُفتعل» مثلما «افتُعلت» الأزمة الحالية.
كذلك، تأتي هذه السلفة في إطار علاج موقت للأزمة، فالعجز المالي للمؤسسة العامة للإسكان لن يتوقف على مدى الأشهر المقبلة تاركاً المجال مفتوحاً أمام كثير من الأسئلة: هل اتخذت المؤسسة العامة للإسكان أي إجراء بحق أي مصرف تعسّف في تنفيذ بنود البروتوكول معها لجهة منح القروض السكنية المدعومة؟ وهل يجوز لأي مصرف أن يوقف هذه القروض؟ كيف ستتعامل المؤسسة مع المصارف التي أوقفت منح «قروض المؤسسة»؟ ما هي الأهداف الفعلية للمصارف من وراء تفجير الأزمة مع المؤسسة؟ هل تريد تعديل البروتوكول؟ أم شراء محفظة المؤسسة؟ أم زيادة الفوائد؟ أم لديها مآرب أخرى؟
ثمة كثير من الهواجس، إلا أن المعطيات التي تكشفت من خلال هذه الأزمة أثارت سؤالاً مركزياً لدى رئيس مجلس الإدارة ــ المدير العام للمؤسسة العامة للإسكان روني لحّود، فلماذا انفجرت هذه الأزمة في هذا الوقت تحديداً رغم أن عمرها يزيد على 18 شهراً؟ ولماذا استمرت بعض المصارف في منح قروض الإسكان فيما أحجم بعضها الآخر؟ وما هو السياق الذي انفجرت فيه هذه الأزمة؟

لماذا انفجرت الأزمة
الآن رغم أن عمرها يزيد عن 18 شهراً؟


في رأي المتابعين والمطلعين، إن هذه الأزمة جاءت بعد مضي الـ15 سنة الأولى على البروتوكول بين المصارف والمؤسسة العامة للإسكان، أي أن زبائن السنة الأولى على البروتوكول الذين حصلوا على قروض مدعومة من المؤسسة العامة بدأوا يغلقون حساباتهم مع المصارف التي قبضت أصل القرض من المقترضين ودفعت المؤسسة الفوائد عنهم. فالجزء الثاني من القرض هو بين الزبائن والمؤسسة حصراً لأن هذه الأخيرة تبدأ باسترداد ما دفعته عنهم من فوائد.
كذلك، تأتي هذه الأزمة في سياق التعديلات التي اتفق عليها بين المؤسسة العامة للإسكان وبين جمعية المصارف لجهة الفوائد على المتأخرات، والتخفيف من القيود الورقية والمكننة مع احتمال الربط الالكتروني وسواها مما ورد في الكتب التي أرسلها لحود إلى جمعية مصارف لبنان قبل انفجار الأزمة.
ومن أبرز النقاط التي سبقت انفجار الأزمة، أن جمعية المصارف كانت قد طرحت على إدارة المؤسسة فكرة شراء محفظتها من القروض ولا سيما الجزء الثاني، أي استرداد المؤسسة للمبالغ التي دفعتها عن الزبائن. يومها، عرضت المصارف ان تشتري هذه المحفظة بقيمة أقل من قيمتها الفعلية بنسبة 30%. ففي هذه الحالة، تكون المصارف قد بدأت باسترداد أصل القروض وفوائدها وتسعى إلى شراء الجزء الثاني (مبالغ الفوائد المدفوعة عن الزبائن) بـ«بلاش». طبعاً، المصارف تتعامل مع الأمر على أنه دعم تقدّمه الدولة للشرائح المحدودة الدخل نظراً إلى مساهمتها في منح القروض بفوائد مخفضة (تتراوح فوائد مؤسسة الإسكان بين 4% و5% وفقاً لكل مصرف وسياساته التسويقية)، ولذلك هي تتوقع من الدولة أن تقبل بهذه المقايضة وأن تمنحها أرباحاً تصل إلى 54 مليار ليرة سنوياً، على أساس أن المؤسسة تدفع اليوم فوائد بقيمة 180 مليار ليرة سنوياً.
وتذهب المصارف أبعد من هذه النقطة عندما يشير الأمين العام للجمعية مكرم صادر (في مقال نشره أخيراً) إلى أن أرباح المصارف محدودة من قروض الإسكان عبر المؤسسة العامة. صادر يقول إن الفوائد للمقترضين تصل إلى 5,068% وأنها بالكاد تعادل متوسط الفوائد الدائنة (فوائد على الودائع) البالغ 5.86%، ويستند إلى هذا الأمر ليلغي كل حديث عن أرباح المصارف في سياق تفجيرها للأزمة مع المؤسسة العامة للإسكان. ويضيف صادر إن «ربح المصارف في مجمل هذه الآلية محدود جداً ويعود إلى عامل الاحتياطي الإلزامي».
وفقاً لحسابات صادر نفسها، يتبيّن أن المصارف تحصل على مردود كبير من قروض الإسكان. فما يتحرّر من مبالغ في الاحتياط الالزامي يجرى اعادة توظيفه في شهادات إيداع أو في سندات خزينة، ما يجعل الأرباح المحققة من قروض الإسكان تزيد (فعلياً) أكثر من نقطة مئوية، وقد تصل الزيادة إلى 1.5 نقطة مئوية، ما يعني أن العائدات الفعلية المحققة من قروض الإسكان تصل إلى 6% أو 6.5% أيضاً.
غير أن مقاربة أرباح المصارف من أي صنف من أصناف القروض هي مقاربة شاملة، وهي المقاربة التي تتنافس المصارف عليها خفاءً. فقروض الإسكان تفرض على المقترضين في البدء دفع عمولة تعادل 1% من قيمة المبلغ المقترض، (على سبيل المثال: مليون ليرة عمولة فتح ملف لقرض بقيمة 100 مليون ليرة)، وتفرض أيضاً على المقترض شراء بوليصتي تأمين (تأمين على الحياة، تأمين على الحريق وسواه) وبما أن عدداً كبيراً من المصارف يملك شركة تأمين تبيع هذه البوالص داخل المصرف خلافاً لأي قانون، فإن المصارف تفرض على المقترض شراء البوليصة من شركاتها.
ويضاف إلى ذلك، إن قروض الإسكان تجعل المقترضين رهائن هذا المصرف أو ذاك لفترة طويلة جداً، فغالبية المصارف تفرض عليهم توطين رواتبهم لديهم طيلة فترة القرض، وتفرض عليهم أيضاً كفلاء يصبحون بدورهم رهائن المصرف أيضاً... وبناء على ذلك، تحاول المصارف منحهم قروض شخصية أو قروض سيارة أو حتى بطاقات ائتمان فيها مبالغ زهيدة لاستدراجهم نحو الاستدانة بفوائد تصل إلى 20% سنوياً.
هذا يعني أن الأسر الـ70 ألفاً الذين تتحدث عنهم جمعية مصارف لبنان بوصفهم حصلوا على قروض سكنية من خلال بروتوكول التعاون مع المؤسسة العامة للإسكان، باتوا بمثابة زبائن لدى المصارف على مدى 15 سنة كحدّ أدنى فيما تحقق هذه المصارف أرباحاً مستمرّة، أما الدعم فتتحمّله الدولة ومصرف لبنان، أي الخزينة العامة.
ويشير بعض المتابعين للأزمة التي انفجرت بين المؤسسة العامة للإسكان وبين المصارف على خلفية عجز الأولى عن سداد مبلغ 37 مليار ليرة، أن بين سطور هذه الأزمة ثمة ما يكشف، بحدّه الأدنى، عن نيات ما تجاه محفظة القروض التي تحملها المؤسسة، وذلك على افتراض أن المصارف ليست جمعيات خيرية، بل شركات تبغى الربح ولا هدف لها سواه، على عكس ما يفترض أن تكون عليه الدولة من راع اجتماعي. فهناك بعض المصارف تتنافس لتزيد محفظة قروضها بأي شكل من الأشكال، وخصوصاً هذا النوع من القروض الذي تتدنى فيه نسبة عدم السداد إلى 0.8%، والمصرف الأكبر في هذا المجال هو «بلوم بنك» الذي تبلغ حصّته من قروض الإسكان 17% وهي تكاد توازي حصّة «بنك الاعتماد اللبناني» التي تقلّ قليلاً عن هذا المستوى. إلا أن «بلوم» هو الوحيد بين مجموعة مصارف أوقفت قروض الإسكان، الذي حاول أن يفرض على الزبائن توقيع مستند يتحدث عن مسؤولية الزبون في دفع فوائد معدلاتها 11.8% في حال تخلف المؤسسة العامة عن السداد. باقي المصارف التي أوقفت هذا المنتج (قروض المؤسسة العامة للإسكان) هي إما مصارف صغيرة تحاول مجاراة قرارات جمعية مصارف لبنان، أو هي مصارف لديها مصالح في زيادة الضغط على الإسكان لشراء محفظته، وهي لن تخسر شيئاً من هذا القرار. لكن ما كان لافتاً، أن هناك مصارف كبيرة لم توقف قروض الإسكان مثل «عودة». أما «بيبلوس» الذي يمثّل رئاسة مجلس إدارة جمعية المصارف، فقد امتنع عن القروض ليومين، وعاد عن قراره سريعاً لينضمّ إلى حملة التنافس على القروض السكنية. بعض المصارف توقف عن منح القروض رغم أن ليس لديه أي ديون مع المؤسسة العامة.
في هذا الإطار، يؤكد المعنيون في الإسكان أن دفع المبالغ للمصارف سيكون مبنياً على أساس معايير مختلفة عن السابق وخصوصاً لجهة كون المصارف قد أخلّت بالتزاماتها في تنفيذ بروتوكول التعاون مع المؤسسة العامة للإسكان. وبالتالي، فإن المصارف التي استمرت في منح قروض الإسكان ستحظى بأولوية سداد المبالغ أما تلك التي توقفت عن الدفع فلن تحظى بهذا «الامتياز»، وخصوصاً أن المؤسسة حصلت اليوم على سلفة خزينة بقيمة 30 مليار ليرة، ولديها مبالغ محققة خلال الفترة الماضية تزيد على 17 مليار ليرة ما يعني أن عجزها انتهى للفترة الحالية وربما للفترة المقبلة أيضاً، فيما سيبقى المنتج المسمى «قروض المؤسسة العامة» هو القادر على توفير دورة تسليفات جيدة لدى المصارف وسيحرّر لها مبالغ وفيرة من الاحتياط الالزامي.
غير أن كل ما ظهر من معطيات ووقائع يشي بأن الأزمة ستعاود الظهور بعد فترة إذا لم يعالج الاختلال الحاصل بين إيرادات المؤسسة والتزاماتها (مصادر الإيرادات هي اقتطاع من قيمة القرض يوضع في حساب المؤسسة، وهناك حصّة لها من الرسوم على رخص البناء، وضرائب التعمير...) بما يكفي لسدّ عجز السيولة المتراكم لديها خلال الفترة المقبلة، أو على الأقل في انتظار إعادة التوازن المالي إلى حساباتها والمرتقب بين عامي 2016 و2017. نار الأزمة اندثرت تحت رماد سلفة الخزينة لكنها لم تنطفئ بعد، بل هي قابلة للاشتعال.




46% من السوق

توصف قروض المؤسسة العامة للإسكان على أنها تستهدف الطبقات المحدودة الدخل أو المتوسطة الدخل، وهي قناة دعم لهذه الشرائح من أجل مساعدتها على تملك مسكن في لبنان رغم قدراتها المتواضعة في وقت يطغى فيه الريع وأرباحه السهلة والسريعة على أي رؤية اجتماعية للاقتصاد. وبحسب مقال الأمين العام لجمعية مصارف لبنان مكرم صادر (النشرة الشهرية لجمعية المصارف) فإن حجم القروض المدعومة من المؤسسة العامة للإسكان ارتفع حالياً إلى 3800 مليار ليرة، وهو يمثّل 28% من مجمل محفظة القروض السكنية لدى المصارف و46% من عدد المقترضين. علماً بأن قيمة محفظة القروض السكنية لدى المصارف بلغت 13688 مليار ليرة في نهاية أيار 2014 ويستفيد منها ما يقارب 106 آلاف مقترض. وتمثّل القروض السكنية 17% من مجمل قروض المصارف التجارية. وقروض المؤسسة العامة للإسكان هي القروض التي تحصل عليها شرائح الدخل المحدود أو متوسطي الدخل الذين لا قدرة لديهم على تملك مسكن في لبنان.