دولار ونصف الدولار تُعد كافية لإسقاط 40% من المصريين ضمن خانة الفقر في التقارير التي يصدرها البنك الدولي ويتداولها صناع القرار والباحثون. إذا رفع البنك الدولي مستوى خط الفقر من 2.5 دولار الى إلى 4 دولارات يومياً سيتم احتساب الملايين إلى 11 مليون فقير يعتاشون حالياً بمبلغ يراوح بين دولارين و2.5 دولار يومياً (هل من الجائر أساساً وصفه بأنه مبلغ؟). تخيّلوا أن تعديلاً طفيفاً في معايير الحساب يؤدّي إلى تصنيف أكثر من نصف المصريين فقراء، والعدول عنه يُبقي النسبة عند 14%! لا غرابة في ذلك، طالما ان المعايير التي يستخدمها خبراء البنك تراعي بشكل حاسم مصالح السلطات واللاعبين الاقتصاديين المسيطرين.التقديرات، التي تُجهّز عبر الحواسيب في المكاتب الفخمة البعيدة من الشوارع وتُطبع لتوزّع مجلدات ضخمة – تُباع في مكتبات بعيدة من الشوارع أيضاً – تبدو منسلخة عن الواقع في كثير من الأحيان.

الغريب، ان هذا تحديداً ما يحذّر منه خبراء البنك في نشرتهم الاقتصادية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تتطرق تحديداً إلى أوضاع سبعة بلدان هي مصر ولبنان وإيران والأردن وتونس واليمن وليبيا. فهل يشكّل هذا «الاعتراف» بزيف التقديرات بداية تعديل في الوصفة التي يروّج لها البنك الدولي؟ هل اقتنع بأن للدولة دوراً حاسماً في الاقتصاد يجب ان تلعبه لمصلحة اكثرية الناس؟ ام انه لا يزال يرى في دور الدولة عائقاً امام النمو؟

عدم الوثوق بالأرقام

بعد سنوات النمو السخي قبل عام 2010، وفي ظلّ التعثر المستمر منذ أربعة أعوام، يضطر البنك الدولي الى تحذير صناع السياسات من انهم مضطرون الى مراجعة حساباتهم جدياً في حال كانوا ينوون فعلاً إرساء قواعد التنمية في مجتمعاتهم. البند الأول على جدول أعمالهم يجب أن يكون عدم الوثوق بالأرقام والتوقعات السطحية التي عادة ما تكون متفائلة وتُسهّل الاختباء وراء بريقها.
يخرج التقرير عن بروتوكول النصح المعتاد للبلدان النامية وتحديداً لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يُنبّه صانعي السياسات من «مخاطر الثقة (الكلية) بالتقديرات الاقتصادية الإيجابية وتجاهل الإصلاحات الضرورية». الحجّة وراء هذه التوصية، يشرح التقرير، هي أن «الدراسات أثبتت أن هناك ميولاً نحو التفاؤل في صياغة التقديرات الاقتصادية للبلدان النامية وتحديداً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».
أحد أسباب هذا الجموح هو أن النماذج المعتمدة (وهي معادلات رياضية تُغذّى بالمعطيات وتبصق الأرقام والتقديرات) لا تأخذ في الحسبان آخر التطورات التي يشهدها البلد المعني أو العوامل الاجتماعية الكامنة التي تساهم في حسن سير الاقتصاد. «والأهم هو أن النماذج تميل إلى تجاهل الإشارات الخطرة حول التغيرات الهيكلية والفورات والانكسارات» التي يمر بها الاقتصاد.
اليوم، «تشير التقديرات إلى تعاف اقتصادي معتدل خلال فترة 2014-2015، ولكن تجب مقاربة هذه التقديرات بحذر، إذا أنه كان لدينا أيضاً توقعات وردية في عام 2010» وتبين أنها خاطئة.
التنبيه من لعبة الأرقام ضروري «خلال هذا المفصل المهمّ»، يتابع تقرير البنك الدولي. برأي معديه «على حكومات البلدان السبعة أن تشجع الإصلاحات الهيكلية وتعزّز المناخ الاستثماري وتزيل العوامل الخانقة في سوقي العمل والإنتاج». هذه الإصلاحات ضرورية بغض النظر عما إذا كان الأفق أسود أو مشرقاً في المدى المتوسط.
الاعتراف (ضمناً) بالدور السلبي الذي لعبه البنك بتشجيع صنّاع السياسات على مضي بسياسات لا توفّر النمو المستدام المولّد لفرص العمل، ومساهمته بالترويج للارقام الوردية والاشادة بالسياسات القائمة وتأييدها ودعمها، لا يبدو في توصيات التقرير اعترافاً بأن الخلل بنيوياً يستدعي مقاربات مختلفة عن مقاربة «اولوية النمو» وتشجيع استثمارات القطاع الخاص وتخفيض العجز المالي عبر تخفيض النفقات العامة بدلاً من اصلاح الانظمة الضريبية.

دورة ضعيفة معتادة

ولكن لنعد إلى أصل التحليل. ما يجمع هذه البلدان السبعة، بحسب التقرير، هو أنها كلها حققت معدلات نمو جيدة قبل عام 2010 وعانت من تدهور اقتصادي عنيف بعد عام 2011، نتيجة مجموعة عوامل اقتصادية واجتماعية، منها ما هو خاص بكل بلد ومنها ما هو شامل مثل رياح التغيير التي عصفت المنطقة بكاملها. خلال الفترة قبل عام 2010 سيطرت دورة من السياسات الضعيفة والنمو الضعيف على هذه الاقتصادات السبع. «على الرغم من أنها نمت على نحو سريع إلا ان هذا النمو لم يكن مستداماً لتوليد الوظائف»؛ وحتى بعد عام 2011 توضح الأحداث ان البلدان تبقى عالقة في هذه الحلقة.
اليوم تبقى معدلات النمو ضعيفة ومعها فرص العمل، كذلك يبقى عجز المالية العامة كبيراً فيما يتضخم الدين العام بمعدلات أسرع من السابق ما يضيق المساحات المتاحة للإنفاق العام الاستثماري، براي البنك الدولي. كذلك، «يبقى القطاع الخاص متعثراً فيما الوظائف التي يخلقها القطاع العام محكومة بالمحسوبيات، ما يزيد من خنق الشباب».

اللبنانيون أكثر من يرى حاجة للواسطة و%90 منهم يربطون الوظيفة بالمعارف


تُظهر حسابات البنك الدولي أنه في حال نمت اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عموماً بنسبة 5% خلال السنوات السبع المقبلة تستطيع أن تولّد 24 مليون فرصة عمل، «بالكاد يكفي هذا المستوى للحؤول دون ارتفاع معدل البطالة «. أما خفض هذا المعدل على نحو ملحوظ فيفرض توليد 30 مليون فرصة عمل بالحد الأدنى.
لكي يتحقق هذا الأمر، يقول التقرير، على البلدان أن تنمو بنسبة 6.5%. أما حاجة البلدان السبعة وحدها فهي أكبر، إذ يتطلب الأمر جرعة نمو تفوق 7%. «لكي تُكسر الحلقة، على البلدان أن تُضاعف معدل النمو الضعيف المسجّل حالياً».
ولكن كيف تحديداً يُمكن جعل النمو مستداماً – أي غير طارئ ومرحلي؟ هنا، يعيد البنك ترداد مقولته عن ضرورة الإسراع بتطبيق الإصلاحات «بما يمهّد الطريق أمام القطاع الخاص ليكون قوّة دافعة للنمو ولخلق الوظائف». يعتقد البنك الدولي أن البلدان تنجح هكذا بتبديد الغيم الأسود المخيم في سماء الشرق الأوسط. ولا سيما في مواجهة خطر امتداد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ليس فقط آنياً بل وجودياً على الكيانات في المنطقة.

مؤشرات غير حيوية

يرسم البنك الدولي اللوحة المأسوية، مستخدماً 14 مؤشّراً يشرح فيها التحديات التي تواجه البلدان. يمضي التحليل كالتالي. كان الاعتقاد سائداً بأنّ النمو القوي الذي سجلته البلدان سيستمر بعد عام 2011، غير أن التحولات التي بدأت ذلك العام كبحت النمو وأغرقت الحسابات العامة في العجز وأظهرت أن التوقعات ليست بهذه السهولة. «وفي ردها على الغضب الشعبي عمدت الحكومات إلى زيادة الإنفاق الجاري والإعانات ما فاقم مشاكلها المالية».
وبرأي البنك فإن أكثر ما أثقل كاهل المالية العامة في المجموعة المذكورة هو إعانات الطاقة، وتحديداً في بلدان مثل إبران والأردن واليمن. وبنتيجة هذا التعب المالي، تقلصت الاحتياطات الأجنبية، «وفيما تفيد التقديرات بأن مصر قد تعيد مراكمة احتياطاتها بمساعدة الأموال الخليجية، فإن إيران، اليمن وليبيا ستستنفذ ثلث احتياطاتها بالحد الأدنى خلال عام 2015».
هكذا ينتهي تقرير البنك الى استعمال «التبسيط» في مواجهة المؤشرات الوهمية. وهذا ينطبق كثيراً على تناوله ازمة البطالة، اذ يجد التقرير في المثال اللبناني غايته للقول ان المشكلة تكمن فقط في فساد القطاع العام وسيادة المحسوبية.

تشاؤم لبناني حاد

تبقى معدلات البطالة خطيرة وخصوصاً في أوساط الشباب، وتحديداً بين الإناث. وبحسب تقرير البنك الدولي، يُسجّل لبنان إحدى المعطيات الأكثر مأسوية على هذا الصعيد، إذ أن البطالة في صفوف الشباب الذكور (15- 24 سنةً) تبلغ 30% وترتفع إلى 35% في حالة الإناث.
«صحيح أن التراجع الاقتصادي فاقم معدل البطالة إلا أن معظمه يعود إلى العوامل الهيكلية القديمة». وما يؤكد هذا الوضع هو أن معظم العاطلين عن العمل هم من المتعلمين وحاملي الشهادات.
وفيما تُرصد ميول واضحة في المنطقة نحو الوظائف في القطاع العام، يرى معظم الشباب الباحثين عن وظائف أنهم يحتاجون إلى «الواسطة» لنيل تلك الوظيفة. وليس غريباً أن يحلّ اللبنانيون على أعلى القائمة بحسب هذا المؤشر إذ أن أكثر من 90% يعدّون «المعارف» ضرورية للحصول على وظيفة.
ولهذا الوضع سبب واضح وهو أن «الفساد مستشر في القطاع العام» يقول تقرير البنك الدولي. فعلياً، السلطات السياسية في تلك البلدان هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن المآسي التي تعاني منها الشعوب. لعل المؤشر الأبرز على هذا الصعيد هو أن 84% من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُسجّل أكثر من 50 نقطة على مؤشر مدركات الفساد لعام 2013، اي أنها فاسدة جداً. ولبنان، للمناسبة هو في قلب هذه المجموعة الفاشلة.
وإذا كان القطاع العام مخنوقاً بالفساد والمحسوبية «فإنّ القطاع الخاص لا يتمتع بالدينامية اللازمة لخلق فرص العمل نظراً إلى العوامل المقيدة للاستثمارات».
هكذا يفسّر البنك الدولي الكيفية التي دُفع من خلالها معظم قوة العمل الى شرك العمالة غير المنظمة والتي لا تؤمن للعامل الأمان الوظيفي والتقديمات الأساسية، وتُهدر حقوقه في آلة الأرباح والفساد. ونسبة كبيرة من هذه الشريحة تعاني من معدلات دخل منخفضة وتقترب من حافة الفقر أو تسقط في هوته. لا يرى البنك الدولي ابعد من ذلك، فالخبراء لديه ما زالوا يؤدون وظيفة اساسية: خدمة مصالح القوى الاقتصادية المسيطرة، على الرغم من ادراكهم الواضح للمخاطر الكامنة في المحافظة على هذه المصالح، والا لما كانوا استهولوا التلطي وراء المؤشرات الزائفة للنمو الرقمي الباهر.