«لعلني أكتب خوفاً من النسيان. أكتب لأتذكّر وأُذكّر خوفاً من أن تمحى الذاكرة من الذاكرة. كأن الذاكرة حبل نجاتي الأخير». هذا ما كتبه «علاء» في دفتر مذكراته الذي وقع في يد «أريئيل» بعد الاختفاء الغامض للأول. الاشتغال على الذاكرة هو ما يعني ابتسام عازم في روايتها «سِفر الاختفاء» (دار الجمل). وربما لهذا السبب اختارت الكاتبة الفلسطينية الحفيد كي يخاطب الجدّة في مذكراته، فيما غاب جيل الآباء. مات والد «علاء» منتحراً، ومات والد «أريئيل» في انفجار مروحيته بسبب عطل فني في سماء لبنان. فلسطيني وإسرائيلي من جيل ما بعد حرب حزيران 67، يقطنان في بناية واحدة في تل أبيب. يعمل الأول مصوّراً تلفزيونياً، ويعمل الثاني مراسلاً لصحيفة أميركية، تنشأ بينهما صداقة مرتبكة، ثم تتباعد المسافة بينهما، حين يقرأ أريئيل صفحات من دفتر علاء في غيابه، ليكتشف وجهة نظر أخرى مغايرة لتاريخ فلسطين، في صراع خفي بين يافا مسقط رأس الجدّة، وتل أبيب المدينة الطارئة.

ذلك أن عملية المحو المستمرة لأسماء الشوارع، لم تلغِ أسماءها الأصلية في ذاكرة الفلسطينيين.
كان لهذه الصداقة أن تستمر رغم التباسها، لو لم يستيقظ الإسرائيليون على خبر اختفاء جماعي للفلسطينيين، ما يضع أريئيل وآخرين في مأزق غير مسبوق.
فهذه الواقعة لم تخطر في بال أحدٍ منهم يوماً، وهذا ما يجعل أريئيل يفتّش في دفتر علاء عن سرّ الاختفاء. لكنه يقع على مفاهيم أخرى للشخصية الفلسطينية تتعلّق بالجذور ورائحة الأماكن الأولى، وقصص الحب المحبطة، وما تشبّث علاء باستعادة تاريخ جدّته، إلا ضرب من مقاومة النسيان، وتالياً، فإن مخاطبتها هي محاولة لترميم النص الأصلي قبل أن يتلوّث بحبر الآخرين، عبر التزوير المستمر، والهروب إلى الأمام، من دون مواجهة للأسئلة الصعبة.

قراءة من الداخل
للواقع الفلسطيني
بكل تشابكاته

هكذا تتناوب وجهات النظر بين خصمين غير متعادلين، في 49 وحدة سردية تنطوي على قراءة من الداخل للواقع الفلسطيني اليوم بكل تشابكاته، من دون شعارات، أو خطابات تعبوية، وسينتهي هذا السِفر في وصف أحوال أريئيل الخائف والتائه والمرتبك مما يحيط به، خلال ترجمته لمحتويات دفتر «علاء»، وقد قرّر أن يغيّر قفل الباب خشية من خربشة غير مرئية سمعها قبل قليل، فهل هي أرواح الفلسطينيين تحوم في المكان؟ ومن سيفسّر لغز الغياب؟ لا طمأنينة إذاً، فقط ما يكتبه علاء في مذكراته، فإن جثث الأجداد والآباء ستبقى حيّة في هذه البلاد، ولن يتمكّن المحتل من محو صورة الفلسطيني من ذهنه حتى في غيابه الغامض.
إذ تتكفل روح المكان بمقاومته، ولن تتحوّل يافا القديمة إلى مكان سياحي للفرجة.
يتساءل علاء قائلاً: «كيف يمكن لمن عرف يافا أن يقوى على تركها»، ويتابع: «كيف لي أن أكنس ذاكرتهم من ذاكرتي؟».
تمزج صاحبة «سارق النوم: غريب حيفاوي» (2011) ثلاثة مستويات لغوية في لعبة السرد، هي الفصحى واللهجة الفلسطينية وبعض العبارات العبرية، بقصد تفكيك موزاييك المكان، وفضح محاولات السطو على الذاكرة لتفتيتها تدريجاً، مقابل صعوبة محو التاريخ الأصلي للمكان، ولو كان مطعماً لبيع الحمّص، فما أن يختفي صاحبا مطعم «صحتين» من أحد شوارع تل أبيب حتى يتكشّف الشارع عن خواء مطبق، ووحشة غير مسبوقة، فيما يلجأ «أريئيل» إلى شقة علاء، الذي أودعه المفتاح قبلاً، لإحساس غامض بالأمان أكثر، ومتذكّراً في الآونة ذاتها مناقشاته مع علاء حول أسماء الشوارع في تل أبيب: «ماذا كنت تريد، أن نبدّل اسم شارع آحاد هعام ونسميه القسّام؟». كان أريئيل على قناعة تامة بأنه ينظر إلى الأمام، فيما كان يتهم صديقه الفلسطيني بأنه حبيس الماضي، وهذا ما يجعل علاء يجيبه بغضب: «إن لم تلملموا حطام ما كسرتموه، فستنفجر هذه الشظايا في وجوهكم حتى لو طمستموها تحت الأرض وحتى لو بنيتم فوقها».
ليس وجود الفلسطيني فوق أرضه كابوساً للإسرائيليين فحسب، وإنما غيابه أيضاً، فجريمة الأمس ستبقى حاضرة، مهما حاول المحتل تجميلها أو إعادة تركيبها على نحوٍ آخر. لعنة تطارد الجميع، ذلك أن هذا الغياب الفجائي أيقظ الخوف في النفوس، وأعاد إليهم ذكريات الحروب المتعاقبة، في بلاد تحوّلت إلى مقبرة للضحايا. لا تتوقّف مدوّنة علاء عند حدود الصراع مع المحتل، إنما تتجاوزها إلى أسئلة وجودية، في ما يخص الحب والكراهية والخذلان والقوة وهشاشة المواجهة، وسيفسّر «أريئيل» أفكار صديقه بأنها أوهام، أو «أحاديث المهزومين عن أساطير الماضي».