تكثر اللافتات التي تدل على الأحياء ذات «الطابع الأثري» في منطقة الجميزة. بعض الأبنية هناك ترفض أن «تمتثل» لأوامر المستثمرين، وتأبى أن «تتماهى» مع «وهج» الأبنية الضخمة التي تسعى الوحوش العقارية إلى نشرها في مختلف مناطق المدينة. هناك، تحت الشجرة المعمرة في حديقة بيت طوباجي في شارع أرمينيا، اختار «الائتلاف المدني الرافض لطريق محور «الحكمة – الترك» أن يقيم لقاءه لتأكيد الرفض الحاسم لقيام مشروع «فؤاد بطرس»، لما يسببه هذا المشروع على صعيد تمزيق النسيج الاجتماعي، عبر تهجير السكان المتضررين جرّاء هذا المشروع، وعلى صعيد القضاء على تراث المنطقة وتاريخها.يقضي مشروع طريق محور «الحكمة – الترك» المعروف بأوتوستراد «فؤاد بطرس»، الذي تسعى بلدية بيروت و«مجلس الإنماء والإعمار» إلى تنفيذه، بشق طريق سريع يبدأ من منطقة «السبينيس» إلى شركة الكهرباء، مروراً بمدرسة الحكمة، ووصولاً إلى مار مخايل.

وعلى الرغم من هدفه، «حلّ أزمة السير الخانقة عند مستديرة الحكمة، عبر ربط داخل المدينة بالطريق السريع»، كما تقول البلدية، إلا أن تداعيات هذا المشروع تعطي نموذجاً «صارخاً» عن كيفية تعاطي السلطات مع هندسة المدينة وسعيها إلى جعلها مغلقة (تحتضن المستثمرين والرأسماليين) بوجه أبنائها عبر تهميش حقوقهم وتراثهم وذاكرتهم.
يلفت المنسّق العام لـ«الائتلاف المدني الرافض لطريق محور «الحكمة – الترك» رجا نجيم، إلى وجود 55 بيتاً متضرراً من المشروع، معظمها منازل مأهولة (5 منها فقط غير مأهولة). 25 منها معرّض للتدمير الكامل، و15 بيتاً مهدداً بالتدمير الجزئي. اللافت أن من بين هذه المباني هناك أكثر من 19 منزلاً تراثياً.
إضافة الى ما سبق، هناك 62 عقاراً (4 فقط غير مأهولة) من الممكن أن تتأثر جرّاء هذا المشروع من ناحية إمكانية الاستثمار أو القيمة العقارية وغيرهما.
من هنا كان التشديد، خلال اللقاء، على ضرورة إشراك الناس في منهجية وضع الخرائط الهندسية. «من المهم الأخذ برأي سكان المنطقة المعنيين بأي مشروع، والحرص على الحؤول دون إلحاق الضرر بمصالحهم عند إعداد أي مشروع هندسي عام»، هذا ما يقوله مهندس التنظيم المدني والناطق باسم الخبراء الموقعين على العريضة المناهضة للمشروع جهاد قيامة. ويضيف أن «شراكة الناس برسم مدينتهم من شأنه أن يقوم بالمصالحة المطلوبة بين المدينة والطرقات من جهة، والناس من جهة أخرى، في حين أن هناك، اليوم، عداوة بين هذه الأطراف».
حجة حل زحمة السير عند مستديرة الحكمة، يدحضها رأي أكثر من 60 خبيراً في مجالات مختلفة، وقّعوا عريضة ترفض المشروع الذي يصفه قيامة بـ«المدمّر». فبالإضافة إلى أن المشروع يسبب ضرراً بالنسبة إلى التنقل الداخلي ضمن أحياء المنطقة، فهو يسبب زحمة سير خانقة في المنطقة المتداخلة مع الأحياء التي يمر فيها هذا المشروع (وصل طريق الشام/الحازمية – البحر/المرفأ – شارل الحلو وغيره).
هناك انقسام واضح في وجهات النظر بين البلدية و«مجلس الإنماء والإعمار» وبعض خبراء التنظيم المدني. «تعتبر البلدية أن هناك حاجة إلى خلق طرقات جديدة، في حين أننا نجد أن هناك طرقاً فوق اللزوم»، يقول قيامة، لافتاً إلى أن من يجد زيادة الطرقات هو الحل، لا يزال يربط نفسه ويحصرها بـ«عقدة السيارات»، فيما يجب الحديث عن وسائل بديلة، وهو ما يعيد الحديث عن أولوية إعادة النقل المشترك.
إضافة إلى المطالبة بتوقف المشروع وتأكيد ضرورة إشراك الناس بالمشاريع الهندسية العامة، كان هناك طرح لافت يدعو إلى الدعوة لتعزيز «التنقّل الحضري في المدينة»، وهو يختلف عن النقل الذي يقضي بالعبور من مكان إلى آخر بخلاف التنقل الذي يتيح الخيارات أمام المدني.
هناك ثلاث مراحل يمر بها أي مشروع عام، وفق ما يقول الخبراء.
المرحلة الأولى تتمثّل بالقرار السياسي القاضي بالموافقة بالإجماع، وهو أمر لا يتحقق ما لم يتم إشراك المجتمع المحلّي (المعني) وموافقته.
المرحلة الثانية تتعلق بـمعرفة الميزانية المطلوبة، وهنا توجد إشكالية بين «الائتلاف» وبلدية بيروت. ففيما تصر البلدية على أن تكلفة المشروع هي 75 مليون دولار، يؤكد الائتلاف أن تكلفته تتعدى الـ250 مليون دولار.
المرحلة الثالثة تتعلق بـمضمون رأي الخبراء، إذ يشكك نجيم باحتمال لجوء القيّمين على المشروع إلى الأخذ برأي الخبراء، وهو ما يتعارض مع العريضة الموقعة من اختصاصيين يجمعون على أن هذا المشروع لا يحل أزمة السير، فضلاً عن كونه مشروعاً «مدمراً». «يسهم في تدهور الحالة البيئية التي نعيش فيها»، بحسب قيامة، الذي يشير إلى أهمية «تغيير نظرتنا إلى المدينة المستدامة التي تنطلق من ضرورة الحرص على المرتكز البيئي».
لم تغب المساحات الخضراء والمساحات العامة عن اللقاء، فالمجتمعون وجدوا ارتباطاً وثيقاً بين «الزحف الإسمنتي» الحاصل وبين قضم مساحاتهم الخضراء العامة.
«بيروت مدينة غير قابلة للسكن»، هكذا تصنف منظمة الصحة العالمية «ست الدنيا»، وذلك لانعدام المساحات العامة والمساحات الخضراء وارتفاع نسبة التلوّث في المدينة، وفق ما يشرح المدير التنفيذي لجمعية «نحن» محمد أيوب. وإذا كان إهمال المسؤولين لهذه المساحات يعود إلى أن حسناتها «خرساء» لا يتلمسها الناس والمسؤولون بسرعة، وفق ما يقول الباحث في علم الاجتماع والعضو في فريق «المفكرة القانونية» رائد شرف، فإن تداعيات غيابها باتت تستهدف وجود سكان المدينة نفسها وتستلزم منهم «الصحو» والوعي لمواجهة زحف المضاربين والمستثمرين العقاريين و«استفحالهم» لطردهم من مدينة لهم في تاريخها وثقافتها الحصة الأكبر.




كلفة الاستملاكات

كثيراً ما تجاهر البلدية بأنها تملك الحصة الأوفر من العقارات في تلك المنطقة، إلا أن أرقام «الائتلاف» تناقض ما تقوله البلدية، إذ يلفت إلى أنّ من بين 85 عقاراً تملك البلدية 10 بيوت و5 أراض فقط. المشكلة الأساسية تكمن وفق الائتلاف في الكلفة المرتقبة للاستملاكات. ففيما تصرّ بلدية بيروت على أن الكلفة تبلغ 75 مليون دولار، يلفت الائتلاف إلى أن تكلفته تتعدى الـ250 مليون دولار.
إلا ان ما يطرح هنا، مهما كانت التكلفة، هو لماذا تتوافر الأموال بـ«سهولة» لتغطية مشاريع استثمارية، في حين أن هناك العديد من مشاريع النقل المشترك ما زالت عالقة بحجة عدم توافر التمويل؟