منذ أن انفجرت قضية تنظيم «داعش» في العراق وتمدد مسلحوها، وصولاً إلى إعلان «الدولة الإسلامية»، انغمس اللبنانيون في توصيفات ونكات، تظهر كم أن الغارقين في حفلات الصيف ومهرجاناته، لم يلمسوا بعد جدية المخاطر التي أحدثها تحول هذا التنظيم إلى «دولة إسلامية» وتمددها في العراق. لا بل إنه في خضم حملات التضامن مع المسيحيين والازيديين، تعالت أصوات سياسية عدة، إما قللت من أهمية «الدولة»، أو تعاطت معها على أنها مجرد حركة مسلحة، لا أبعاد دينية أو سياسية أو عسكرية متشابكة لها.
مشكلة لبنان اليوم، رغم التطورات الخطيرة، أنه لا يزال يتعامل مع هذه «الدولة» وكأنها مجرد اسم إعلامي أو صورة على شاشة. ففيما ترفع العواصم الدولية المعنية، من واشنطن إلى لندن وباريس وألمانيا ودول أوروبا، فضلاً عن موسكو، قضية «الدولة الإسلامية» إلى صدارة اهتماماتها، بحسب ما تظهره تصريحات قادتها ووسائل إعلامها، يبحث مجلس الوزراء في المطامر وفتح كليات وجامعات جديدة.
وفيما تنتظر سوريا جملة خيارات دولية وإقليمية يمكن أن تتأرجح بين ضربة أميركية لـ«الدولة» بالتعاون مع النظام السوري، أو من دون هذا التعاون، أو حتى القيام بأي عمل عسكري، تقف سوريا أمام استحقاق خطر، وإلى جانبها لبنان. إلا أنه لم يظهر في الأيام الأخيرة أن المسؤولين اللبنانيين، على كافة مستوياتهم، واعون لحجم المخاوف من «الدولة الإسلامية» التي تهدد حتى السعودية والأردن اللذين بدآ يوسعان حركة اتصالاتهما الدولية والإقليمية بعدما اقترب الخطر من أبوابهما.

لم يظهر المسؤولون اللبنانيون وعياً لحجم المخاطر التي تشكّلها «الدولة الإسلامية»


هناك انغماس كلي في الشأن المحلي الداخلي، وفي الردود والردود المضادة، وفي الحملات السياسية التي أعقبت معركة عرسال، حتى نسي الجميع أن هناك سبباً لكل ما حصل ولكل ما يجري في العراق وما بدأ ينفجر في سوريا. وليس سراً أن قلة من المسؤولين تتابع حركة «الدولة الإسلامية». المعروف من هؤلاء حزب الله، ليس بسبب وجود عناصره في سوريا فحسب، والنائب وليد جنبلاط، وأوساط سياسية ترصد بدقة حجم هذا التمدد من العراق إلى سوريا والخشية من وصوله إلى الحدود اللبنانية. وما عدا ذلك، استنكار سُنّي إعلامي من دون عمل واضح، وتقليل من جانب القوات اللبنانية من أهمية «داعش»، ومبالغة من التيار الوطني الحر الممثل في الحكومة، في استثمار شعارات مسيحية ضد «الدولة» لأسباب انتخابية ورئاسية.
تبدي هذه الأوساط السياسية المتابعة، وهي على بينة من جغرافية سوريا، خشيتها من التطورات الخطيرة الأخيرة بكل خسائرها الثقيلة، ومن المرحلة التي ستلي سيطرة «الدولة» على مطار الطبقة في الرقة، وانعكاس ذلك على لبنان. وتقول: «بعدما رسمت أمام الدولة الإسلامية خطوط حمر في العراق في اتجاه المنطقة الكردية، ولأن حجم المخاطر كبير من التوجه نحو السعودية، نقلت الدولة الإسلامية ثقلها العسكري نحو سوريا. وما حصل أخيراً من سيطرة «الدولة» على كامل محافظة الرقة، بعد سقوط مطار الطبقة، يعد أكبر انكسار للنظام السوري منذ بداية الحرب السورية، وأول انتصار كبير لهذه «الدولة» منذ بدأ إطارها العسكري يكبر من العراق إلى سوريا تحت رايتها السوداء».
وأمام «الدولة» ثلاثة احتمالات بعد الرقة، في ظل استبعاد توجهها نحو المنطقة الكردية إثر تجربة العراق:
ــــ الأول، التوجه نحو محافظة دير الزور القريبة من الرقة ومن العراق، بغية توسيع رقعة انتشارها، ونظراً إلى أن هذا الخيار أسهل عسكرياً على قاعدة أن لها جيوباً عسكرية فيها.
ــــ الثاني، التوجه نحو حلب، وهو خيار مستبعد حالياً، نظراً إلى أن المعركة هناك غير محسومة بين النظام وبين مجموعة المعارضات بما فيها «داعش».
ــــ الثالث، التوجه نحو محافظتي حمص وحماه، وهما بعيدتان جغرافياً عن الرقة. لكن ما يفصل بينهما وبين الرقة صحراء شبه خالية. وهذا الاحتمال الأخطر على سوريا ولبنان، لأن هذه المعركة ستضع المنطقتين العلوية والمسيحية في سوريا تحت ضغط عسكري كبير، وستكون المنطقتان في خطر شديد، مع ما يمكن أن يمثله هذا الخطر من احتمال تهجير مئات الآلاف إلى لبنان.
بين الاحتمالات الثلاثة التي ترصد بدقة، يمثل الاحتمال الثالث خطراً مباشراً يرتد على لبنان، على أكثر من مستوى، إذا اقتربت المعركة من حدوده الشمالية. ويضع أيضاً النظام السوري أمام أكبر تحدٍّ يواجهه للدفاع عن المنطقة العلوية والمسيحية على السواء، كذلك يضع حزب الله أمام ضغط الدفاع عن حمص لمنع اقتراب «الدولة» من الحدود اللبنانية.
يمكن القوى السياسية المناوئة لحزب الله وسوريا أن تقف بقوة ضد الطرفين وتحملانهما مسؤولية «داعش»، كما فعل تيار المستقبل أمس. لكن لبنان اليوم أمام مرحلة صعود الدولة الإسلامية. وثمة أسئلة يحتاج اللبنانيون إلى سماع أجوبة عنها من الحكومة التي يشارك فيها معارضو حزب الله وحلفاؤه. فلبنان استفاد من معارك العراق كي يؤسس لمرحلة استقرار أمني نسبي. إلا أن معركة عرسال خرقت بجدية هذا الاستقرار وأعطت إنذارات سيئة. وبعد تطور الرقة وبروز احتمال انتقال المعارك إلى حمص، ماذا سيفعل لبنان بكل مستوياته، إذا قررت «الدولة الإسلامية» خوض غمار معركة حمص بدلاً من الذهاب نحو دير الزور؟ وهل سيكون قادراً على تحمل الضغط العسكري على حدوده مع كل الارتدادات الداخلية على المناطق المعنية شمالاً وبقاعاً، إذا رجحت كفة الميزان لأي من الطرفين المتقاتلين؟ ومن يضمن بعد تداعيات معركة عرسال وتهديدات الدولة الإسلامية، إمكان السيطرة على أي توتر أمني على خلفية الحدث السوري؟ وماذا يمكن الحكومة أن تتخذ من تدابير عسكرية وأمنية على الحدود، وأين أصبحت التدابير التي تعنى باللاجئين السوريين؟
لكن هناك سؤال أول تُفترض الإجابة عنه، قبل الأسئلة الآنفة: هل تعلم السلطات اللبنانية أن «الدولة الإسلامية» موجودة حقاً وأصبحت على مقربة من لبنان؟
ما حدث في معركة عرسال، وقبلها وبعدها، لا يوحي بأنها تعلم ذلك.