في صيف 2009، اعتلى النجم السوري سامر المصري منصة مهرجان «أدونيا» في فندق «الفورسيزنز» وسط دمشق، وراح يردد ما كتبه له الشاعر لقمان ديركي عن إمكانية نجاح المؤامرة على الدراما السورية، ثم وزّع المهن التي ربما سيلجأ إليها النجوم عندما تسوء أحوالهم ويصبح معظمهم عاطلاً عن العمل. من باب الدعابة، تخيّل أنّ الكوميديان دريد لحام سيتحول مذيع برامج أطفال في قناة «المنار».
أما أيمن زيدان، فمتعهد «ميكرو باصات» على خط قريته الرحيبة ينتظر بفارغ الصبر نهاية اليوم حتى ينتشي بسماع كلمة موظفيه وهم يقولون: «تفضل هذه الغلة يا معلّم». توقع أيضاً أن تغدو منى واصف مديرة مدرسة حكومية صارمة جداً، وأمل عرفة مربية أطفال. أما بسام كوسا فسيمتهن تنسيق الزهور لدى الجناح السوري أثناء انعقاد المعارض الدولية، وجمال سليمان وزير ثقافة سابق وسفير نوايا حسنة في أفغانستان!
يومها، ضحك النجوم على النكتة، وقلة منهم استاؤوا من الطريقة والأسلوب، لكنّ أحداً لم يفكر للحظة أنّ كلمة واحدة مما ردده «أبو شهاب» سيصبح أمراً واقعاً! دارت الأيام، فإذا بالحرب المستعرة تصيب شظاياها فنانين ومثقفين سوريين، فتحيل بعضهم شهداء وآخرين معتقلين، فيما كانت للبطالة حصة وافرة لدى مجموعة لا بأس بها. على الخط ذاته، انقطعت نهائياً أخبار آخرين ولم نعد نسمع أصواتهم.

اضطر سميح
شقير للعمل كسائق تاكسي يلبي طلبات
من المطار

في زحمة تلك الظروف الدامية، تحولت باريس مقصداً لكثير من الفنانين والمثقفين السوريين الذين وقفوا منذ البداية إلى جانب الحراك السلمي الذي استحال صراعاً مسلحاً لاحقاً. وإذا بالمزحة التي أطلقها نجم «باب الحارة» أضحت واقعاً سمجاً! الفنانون السوريون اللاجئون إلى عاصمة الأنوار ضاقت بهم السبل، فأُجبر بعضهم على مزاولة مهن جديدة يعتاشون منها. خطوة كانت كفيلة بتبديد ادعاءات النظام الواهية وإعلامه عن ارتهان جميع معارضيه لجهات خارجية وقبضهم مبالغ طائلة ثمناً لمواقفهم المناهضة له.
يعود الزائرون من باريس ليرووا لنا حكايات عن حياة المثقفين والفنانين السوريين هناك. يدعّمون رواياتهم بمقاطع فيديو التقطتها كاميراتهم، وتفاصيل وأحاديث سجّلتها هواتفهم بقصد أرشفتها للذاكرة أو لاستخدامها في عمل فني، يحاكي تلك الشخصيات والمحطات التي مرت بها. خير ما تستهله الأحاديث قصة سميح شقير مغني «الثورة» السورية الذي أطلق مطلع الأحداث أغنية «يا حيف» حكى فيها عن الحراك مفنداً أحداث درعا، فتحولت الأغنية لاحقاً إلى نشيد ردده كل مؤيدي «الثورة». لكن المغني الملتزم الذي اصطف سريعاً إلى جانب التظاهرات، سافر إلى فرنسا ليعالج من السرطان، وسجل أغنيته الشهيرة هناك. لاحقاً، اضطر للعمل كسائق تاكسي يلبي طلبات محددة من المطار. ويروي كل من يعرف صاحب «يا الجولان» عن فقر حاله واعتماده في مصروفه اليومي على سيارة العمومي التي يملكها، فيما لم يتوقف عن الكتابة الوجدانية لتتلقف المواقع الإلكترونية كتاباته وتنشرها أولاً بأول. أما النجم فارس الحلو وزوجته الممثلة سلافة عويشق، فلهما قصة مشابهة. رغم أن الحال لم تتغير عليهما كثيراً بعدما كانت ترهقهما الأقساط الشهرية لسيارتهما الخاصة ومنزلهما في ساحة العباسيين رغم نشاطهما الفني الدائم وتأسيس الحلو ملتقى «البستان» الثقافي، إلا أنّ كل ذلك لم يكن يكفي. وبمجرد انتقال الممثل السوري مع عائلته إلى فرنسا، عاش بداية حالة تشرد تنقّل أثناءها للإقامة عند أقربائه.

الممثلة عويشق اشتغلت كطبّاخة في البدء قبل انتقالها إلى «مونت كارلو»

لاحقاً، تسلّمت زوجته زمام المبادرة، مستفيدةً من إتقانها اللغة الفرنسية، فراحت تعمل في الطبخ وتحضر وجبات خاصة لعائلات سورية أو عربية تجاورها في السكن وفق طلب تلك العائلات. ثم انتقلت للعمل كمذيعة أخبار في إذاعات عدة منها «روزنه» التي عملت فيها تحت اسم مستعار، ثم «مونت كارلو» ولا تزال تواظب على عملها حتى الآن. أما نجم «الحصرم الشامي»، فقد بقي على موقفه الرافض لمشاركة «شبيحة» النظام في أي مسلسل، وفضل الاعتذار عن عدم العمل في أكثر من مسلسل سوري بسبب وجود بعض الوجوه المؤيدة للسلطة، وقرر البقاء بلا عمل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ورغم تاريخه الفني الطويل واعتباره «شيخ المخرجين السوريين»، إلا أنّ هيثم حقي وصل لما يشبه مرحلة التقاعد في باريس، إذ رفض مراراً دعوات النظام للعودة إلى دمشق على اعتبار أن «من يوغل في المجازر، لا يمكن أن يمد يده بصدق نحو السلام والمصالحة» وفق ما ينقل عنه. هكذا، تفرغ بشكل شبه كلي لمراقبة الأحداث السورية، وقرر متابعة الأخبار عن كثب من دون أن ينجز أي عمل فني أو يسجل ظهوراً إعلامياً واحداً في السنوات الأخيرة. أما زوجته الشاعرة هالا محمد، فقد قررت أن تلمّ الشمل وتنشّط الحراك السوري وتوثق لما يحدث بحق الشعراء السوريين، لكن على طريقة الأدب والفن. هكذا، دعت إلى أمسيات يستضيفها «معهد ثقافات الإسلام في باريس» تحت عنوان «وإنهم رغم ذلك يُبدعون» لتكون الأمسيات وفق ما كتبت محمد على صفحتها على فايسبوك عبارة عن «نهر جارف من الشعر السوري، الشاهد على تراجيديا الألم والدّم، كما بقيّة الفنون السورية وأجناس الأدب والإبداع، لتختلط أشعار الأحياء والمعتقلين ومن رحلوا». تركّز الأمسيات بجزء منها على الشعراء الشهداء والمعتقلين، إضافة إلى مشاركات شعراء سوريين قصدوا باريس من أجل هذه الأمسيات فقط. ومن هؤلاء نذكر لقمان ديركي، عارف حمزة، دارا عبد الله، خلود الصغير. تتولى الممثلة حلا عمران برفقة المخرج المسرحي وسام عربش ترجمة القصائد بشكل فوري للجمهور، إضافة إلى قراءات شعرية فرنسية بصوتهما. بعد ذلك، توضع قصائد على مقاعد فارغة لشعراء معتقلين أمثال ناظم حمادي، وائل سعد الدين، ناصر بندق، أجود عامر. وآخرين شهداء. على أن يقرأ لهم الضيوف مقاطع من قصائدهم. ولا تخلو الأمسيات من مرور على ناشطين وكتاب وفنانين يعتقلهم النظام أمثال عدنان الزراعي وزكي كورديللو، وآخرين تحتجزهم المعارضة المسلحة أو التنظيمات التكفيرية مثل رزان زيتونة وسميرة خليل. بعد الأمسية، يقصد الجميع مطعماً يعرّفون عنه باسم «أحمد السوري» نسبة إلى صاحبه الذي يقيم في باريس منذ زمن طويل. وقد تحول المطعم إلى ملاذ يأوي عدداً من أبناء بلاده الفارين من جحيم الحرب. يترك صاحب المطعم جداراً كبيراً لإمضاء التذكارات، فكل من مر من هناك، سيوقع اسمه ويتركه حتى يعرف رواد المكان أسماء زوّاره. ورغم ازدحام الحائط بأسماء الفنانين والكتاب والصحافيين والسياسيين، إلا أنه ما زال يتسع للكثير. على ضفة مقابلة، ما زال التشكيلي خالد الخاني يحافظ على مهنته وقد أقام معرضين في باريس آخرهما هذا العام. باعتقاده، فالرسم هو وسيلته الوحيدة للدفاع عن نفسه في مواجهة الحرب والعنف، وهو طريقه الأمثل للتعبير عما يجول في خاطره. دفع الخاني الفاتورة باكراً عندما فقد والده في الأحداث الدامية التي لحقت حماة عام 1982 في حين يبدو واضحاً اختلافه الجذري مع ابن عمه الممثل مصطفى الخاني. يتجنب خالد الخوض في مواقف ابن عمه المعادية للثورة، يتنقل بين الشوارع الباريسية ليصل إلى محترفه المشترك حيث يعمل لساعات. في جلساته مع الأصدقاء، يحكي مراراً نكتة عن «أحد الفلاحين البسيطين الذين مرت الثورة بمحاذاتهم، فلم يسمعوا بها، ولم يفهموا ماهية ما يحدث حولهم. وعندما هدم بيته جراء قصف الطيران، قصد بيت أحد الناشطين الذين منحتهم الأحداث شهرة استثنائية. وبعد الإلحاح على لقائه، طلب منه أن يتصل بنتنياهو ليوقف القصف، ظناً منه أن الحرب التي دفع بيته ثمناً لها من حيث لا يدري هي حرب مع العدو الصهيوني».
يواظب سوريو باريس على لقاء الصحافيين الفرنسيين الذين اختطفتهم الجماعات الإسلامية في الشمال السوري قبل أن يُطلق سراحهم. يلتقون أيضاً كل من يهتم بشأن بلادهم أو ينتمي إلى منظمات حقوقية وإنسانية تعنى بما يحدث في عاصمة الأمويين. هكذا اهتمت غالبيتهم بسماع الكلمة التي ألقاها الصحافيون الفرنسيون الأربعة ديدييه فرنسوا، ونيكولا إينان، وبيار توريس، وإدوار الياس، في إحدى الساحات العامة في باريس بعد نجاتهم من قبضة «داعش» الذي اختطفهم واحتجزهم في سوريا قبل أن تعثر الشرطة التركية عليهم على الحدود في نيسان (أبريل) الماضي.
وسط هذه الزحمة يصل الموسيقي السوري مالك جندلي آتياً من الولايات المتحدة مكان إقامته، في زيارة سريعة لا تتعدى يومين. سرعان ما يلبّي بمنتهى السرور دعوة الأصدقاء للنزول إلى محطة مترو قديمة والعزف على آلة البيانو لألحان خاصة رافقت الحراك في سوريا، وسط تجمهر كبير، لا ينتهي إلا بعد توثيقه بعدسات الصحافيين وحضور زوجة الصحافي الفرنسي إيف دوباي الذي قتل قبل عام في حلب.




zoom | ماء الفضة

سبق أن اجتمع كل الفنانين والمثقفين السوريين المعارضين المقيمين في باريس أثناء فعاليات الدورة 67 من «مهرجان كان السينمائي 2014» لحضور الفيلم التسجيلي السوري «ماء الفضة» (2014 ــ 92 دقيقة) الذي أنجزه المخرج أسامة محمد (الصورة) بالتعاون مع وئام بدرخان عبر الاعتماد على مقاطع سجلتها هواتف الناشطين ومقاتلي المعارضة منذ اندلاع شرارة الاحتجاجات، مروراً بالمراحل المتتالية التي أجبرت المتظاهرين على رفع السلاح في وجه النظام، وصولاً إلى حصار حمص الأخير الذي انتهى بتسوية بين السلطة والمسلحين. قبلها، كانت بدرخان قد وثقت بكاميرتها خلال وجودها هناك بعض أجزاء الفيلم خصوصاً أنّ «عاصمة الفكاهة السورية» لحقها حصة كبرى من الدمار. هكذا، يرصد الشريط انتهاكات النظام بحق الشعب ويحاول تقديم صورة مثالية عن ثورة معافية من كل ما لحقها من أخطاء كارثية. ومع ذلك فقد ترك أثراً بالغاً لدى الصحف الفرنسية التي احتفت به، بينما اعتبرته القنوات الإخبارية العربية المعادية للنظام السوري بأنه بمثابة ثورة في تاريخ السينما السورية، على اعتبار أن مشاهده صوّرت بكاميرات الهواتف النقالة من دون أن تمرر ولو انتقاداً بسيطاً عن تجاهل الفيلم كلياً للتنكيل الذي لحق جزءاً من الشعب السوري على يد الجماعات الإسلامية والتنظيمات التكفيرية التي ركبت موجة الثورة. مع ذلك، عنونت مواقع إلكترونية مقالاتها بشكل مبالغ فيه مثل «جماهير كان تهتز للفيلم السوري»