بغداد - منذ عام 2003، مع تشكيل كلّ حكومة عراقيّة جديدة، يدور الحديث وتنشغل الصحف والتجمّعات الثقافيّة والأدبيّة، باسم وزير الثقافة، قبيل منح الثقة للوزراء الجدد في مجلس النواب. هذه الأيّام تعيد إلى الأذهان الحراك نفسه الذي دأب عليه سابقاً مثقفون وكتّاب ومنظّمات معنية بالأدب والفنّ والمسرح، بمطالبات أبرزها إخراج وزارة الثقافة من المحاصصة الطائفيّة والسياسيّة التي يحتكم إليها العراق في تسمية مسؤوليه الرسميّين.
أخيراً، نظّم «الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق» مؤتمراً استثنائيّاً في بغداد، حيث ثبّت في بيانه الختامي المطلب القديم- الجديد، بوزير من الوسط الثقافيّ يحظى بإجماع وتأييد في الساحة. إلا أنّ اللقاء الذي جمع ممثّلين عن فروع الاتحاد في أغلب المحافظات العراقيّة مع رؤساء تجمّعات وروابط ثقافيّة وفنيّة، طالب أيضاً، بمراجعة العملية السياسيّة التي جرت منذ 11 عاماً و"أنشأت جيلاً من الساسة ورجال الإدارة وحتّى من رجال المؤسّسة العسكريّة ارتضوا الحصول على المكاسب والامتيازات ممّن افتقدوا الاستعداد للتضحية من أجل الأهداف الوطنيّة. وتكون النتيجة احتلال الموصل بصورة غادرة وجبانة".
وجدّد البيان الدعوة إلى تشكيل مجلس أعلى للثقافة يرعى النشاط الثقافيّ غير الرسمي في بغداد وبقية المحافظات وبشكل خاص نشاط الاتحادات والروابط والنقابات الأدبيّة والفنيّة ليكون ظهيراً لوزارة الثقافة ولا يتقاطع معها.
ما يؤخذ على المؤتمر، عدم استضافة أي ممثّلين عن الكتل السياسيّة أو حتّى مندوبين عن رئيسي مجلس النواب والجمهورية، ورئيس الوزراء المكلف، لكي تكتسب الأطروحات والاقتراحات المزيد من الواقعيّة، بحضور من يمثّل الأطراف المعنية بمفاوضات تشكيل الحكومة، ولسماع رأيهم إن كان مستحيلاً- وهو المتوقع جدّاً- تجاوز آليات المحاصصة في اختيار المسؤولين والدرجات الخاصّة في السلطة التنفيذيّة.
وهنا يتّضح للمتابعين إنّ بعض الاقتراحات لم يكن منظّمو اللقاء الاستثنائي على استعداد للمضي بها، ومنها ما ذكره الشاعر عارف الساعدي في مداخلة له، بأن يجري الاتفاق داخل المؤتمر على ثلاث شخصيات تقدّم على أنّها مرشحة من لدن المثقفين لتولّي وزارتهم. فهذا يحتاج إلى مؤتمر عام يحضره مئات الأدباء والفنّانين، كي نحصل على شيء من الإجماع الذي يحتاجه تنفيذ خطوة كتلك التي طرحت.
الكلمات الرئيسة في المؤتمر لم تكن ببعيدة عن تشخيص ما وصل إليه الحال العراقيّ العام، والأسباب التي أدّت إليه. مثلاً كان "تغييب دور المثقفين" منطلقاً لكلمة رئيس اتحاد الأدباء الناقد فاضل ثامر، إذ عزى "ما تمرّ به البلاد من وضع متدهور، بفعل السياسات التي تجاهلت الوعي والثقافة والتنوير"، الأمر الذي "أشاع أجواء من التطرّف وإلغاء الآخر".
وذهبت كلمة نقيب الفنّانين صباح المندلاوي، لتؤشّر إلى تراجع في القيم المدنيّة، عندما انتقد "ما يواجهه الفنّان اليوم من لامبالاة ونظرة قاصرة ولا حضاريّة، في الوقت الذي تفتخر فيه الشعوب المتقدّمة والمتحضّرة بمبدعيها وفنّانيها". وطرحت كلمة المنظّمات الثقافيّة التي ألقاها الباحث عبد جاسم الساعدي، مجموعة تصوّرات تتعلّق بإشاعة مفاهيم الثقافة النقديّة التي تعنى بثقافة السؤال النقديّ والمعرفيّ وتقديم مشروعات عمل حقيقيّة تنقذ العراق في المرحلة الخطرة التي يواجهها الآن.
ويظهر إنّ أي نشاط ثقافيّ في البلاد لا يمكنه تجاوز محن الواقع، إذ لا بدّ من موقف إزاء ما يحصل، مثلما اختتم بيان المؤتمرين بأنّهم واثقون من تحرير الأرض العراقيّة من دنس الجماعات الإرهابيّة، قائلين باللغات العربيّة والكرديّة والتركمانيّة والسريانية :"لن يمرّوا"، "تيبه ر نابن"، "كيجمه زلر"، "لا عَبْرين".
ومن المناسب الإشارة إلى أنّ نتائج هذا الحراك في مفاوضات تشكيل حكومات سابقة، لم تثمر عن شيء. بالتالي، فإنّ الأجواء السياسيّة هي نفسها، إن لم تكن أكثر احتقاناً، ولم يتغيّر منها شيء. لذا، فالمؤتمر ليس إلا وسيلة من وسائل الضغط والتعبير عن الرأي، يحتاج إلى أن يختصر الطريق بترشيح مجموعة شخصيات ثقافيّة قريبة من الفضاء السياسيّ بحيث يمكن للقوى والأحزاب القبول بها أو التباحث بشأنها، فما من كتلة في العراق ستتنازل عن حصتها في الحكومة اليوم.