أن يُمنع صحافي من الدخول الى «حرج» بيروت لتغطية نشاط يُقام فيه، فهذا لا يّعد استهدافًا للحريات الإعلامية (التي تشهد إمعانا في تقييدها في الفترة الأخيرة) فحسب، بل يعني أننا أمام سلوك «أرعن» ينطلق من اعتبار «حرج بيروت» مكانا خاصا تملكه بلدية بيروت، يحلو لبعض موظفيها، اتخاذ قرارات «استنسابية» محمية من القيمين على هذه السلطة المركزية (رئيس بلدية بيروت بلال حمد ومحافظ مدينة بيروت زياد شبيب).
فقد «ارتأت» مديرة الحدائق العامة (المعيّنة حديثًا) مايا الرحباني أن تتخذ قرارا يقضي بمنع دخول الصحافيين بـ«كاميراتهم» لتغطية النشاط الذي دعت اليه جمعية «نحن»، السبت الماضي، داخل «الحرج». حجة الرحباني، وفق ما قالت للـ«الأخبار» أن «الموافقة التي وقّعها المحافظ لم تتضمن السماح بعقد مؤتمر صحافي هناك»، مشيرةً الى أن الكثير من الصحافيين دخلوا بدون كاميرات الفيديو، «كما يفعل الناس العاديون». والحقيقة أن هناك بعض المؤسسات الإعلامية دخلت الى الحرج (من ضمنها «الأخبار») بصفتهم مشاركين في النشاط لا كصحافيين واعلاميين، فيما اضطر البعض الآخر من الاعلاميين الى مغادرة المكان، لان الحراس منعوا دخولهم.
الجدير ذكره أن الكتاب الذي وجهته جمعية «نحن» الى محافظ مدينة بيروت بتاريخ 14/8/2014 يلفت الى «امكانية حضور الإعلاميين»، وقد جرت الموافقة على هذا الأساس، ولم تجرِ الاشارة في نص الموافقة على عدم السماح للإعلاميين بالدخول، إذ يقتصر النص على «وجوب التقيد بالنظافة العامة وعدم المساس بالإنشاءات والمفروشات والمحافظة على سلامة الأشجار..». وبالتالي، فإن قرار الرحباني لا يعد من ضمن صلاحيتها طالما أن المحافظ قد سمح بذلك، وطالما (وهذا هو الاهم) ان حرية الاعلام مكرسة في الدستور والقوانين.

دخول عدد من
الأجانب لممارسة المشي على نحو عادي

موظّفة البلدية لم تكن لـ«تتصرف» بهذه الطريقة لولا أخذها الضوء الأخضر من «مكان ما». اذا كانت الرحباني لا ترى ان الصحافيين هم «ناس عاديون» يحق لهم الدخول الى ملكهم العام وتغطية النشاطات التي تقام فيه فهذه مشكلة، أما إذا كانت تتخوف من أخذ الإعلام «تصريحا» من نشطاء الجمعية فهذه مشكلة «أكبر»، تنم عن جهلها بأن من يريد أن يأخذ مواقف من المشاركين داخل «الحرج» يستطيع أن يأخذها خارجه! أمّا قرارها الذي كان يقضي بمنع حتى المشاركين في النشاط من الدخول، قبل أن تغير رأيها بعد أكثر من نصف ساعة من المفاوضات، فيعود الى رغبتها في «تلقين» الجمعية درسا، لأن مديرها التنفيذي محمد أيوب «هاجم البلدية»، منذ أيام، في تصريح له لصحيفة «الدايلي ستار» (وفق ما قالت له في اتصال أجراه معها). وعلى الرغم من أن صلاحية الرحباني لا تشمل حرصها على «سمعة» البلدية إلا أنها تريد أن «تبتزه»، فهي «لم تعطه الإذن كي يهاجم البلدية»، وفق ما قالت له (علما ان إعطاء الإذن ليس من صلاحياتها). من جهته، يؤكد أيوب أنه لم يستخدم تعابير مسيئة عن البلدية ولم يهاجمها، «بل أشرت الى ذكر الوقائع التي تحول دون فتح الحرج». يستنكر أيوب الطريقة التي جرى التعاطي بها مع الجمعية، لافتًا الى وجود بعض الجمعيات المدنية «المرضيِّ عنها من قبل البلدية» تحصل على تصاريح لإقامة نشاطات عديدة في الحرج من دون أن يجري التضييق عليها. «فلماذا هذا التمييز؟».
السياسات «التمييزية» ليست غريبة عن بلدية بيروت، فهي التي تضع شروطا «طبقية» بحجة «حفاظها على سلامة الحرج»، وهي التي «تضرب» التحية للأجنبي للدخول اليه في الوقت الذي تغلقه بوجه معظم أبنائها التواقين الى وجود «متنفس» لهم في المدينة. ففي الوقت الذي كان فيه عناصر شرطة بلدية بيروت «يدأبون» على منع دخول كاميرات الصحافيين، و«يتأهبون» لتفتيش الداخلين الى «الحرج»، و«يستنفرون» لمرافقة المشاركين في النشاط «للحرص على عدم تخريبهم أي شيء»( قالها بالفم الملآن أحد العناصر)، كان هناك بعض الأجانب يدخلون «براحة» كبيرة (ظهر جليا أنها ليست المرة الأولى التي يدخلون فيها للتنزه ولممارسة رياضة المشي) وبدوا مستعدين للتمتع بـ«ملكنا العام»!!
المناوشات التي حصلت بين عناصر شرطة البلدية والمشاركين في النشاط تكشف عن «تلقين» البلدية أفكارها الطبقية والعنصرية لهم. لم ينفكواعن الحديث عن «الناس اللي مش خرج»، الذين قد «يخدشون» جمالية المكان، أو أولئك «الزعران»، الذين قد يتسببون بمشاكل تسيء الى صيت الحديقة. وهو ما ينسجم وتصريحات حمد، التي تشير الى مخاوف البلدية من سلوك الأفراد الذين قد يسيئون استخدام الحديقة، «من الممكن أن يكون هناك خرق للآداب العامة، أو أن يتحوّل إلى مكان للأراغيل»، قالها حمد في مناقشة علنية أقامتها جمعية «نحن» في شباط 2012. هو لا يريدها حديقة شعبية، أو بمعنى أدق، يجاهر بعدم حماسته للمساحة العامة وتفضيله خصخصتها، بمعنى جعلها مكاناً خاصّاً ومقيداً، وربما مغلقاً».(عدد «الأخبار» الإثنين 28 تموز 2014) http://www.al-akhbar.com/node/211939
حالة من «التأهب» و«الاستنفار»، التي أصابت عناصر شرطة بلدية بيروت، السبت الماضي، قد يكون سببها أنهم لم يعتادوا ربما، إقبال هذا «الكم» من المواطنين الذين أرادوا «ممارسة حقهم في الملك العام والتعرّف على الحرج»، وذلك تلبيةً للدعوة التي أطلقتها جمعية «نحن» ضمن نشاطاتها الرامية الى إعادة فتح «حرج» بيروت. ذلك أن «الحرج» لا يزال مغلقا في وجه أبنائه منذ 12 عاما (كان عليها ان تفتتحه في الـ2002). لذلك تجد معظم العناصر «مستغربين» هذا الوضع «الهجين».
«ما يحصل فعلًا أمر معيب»، يقول الناشط البيئي رجا نجيم، الذي رفض الدخول الى الحرج استنكارا لما حصل من منع للإعلام من الدخول، فضلًا عن استنكاره النظرة التي يجري تسويقها عن بعض الفئات الاجتماعية التي قد تتسبب بـ«تخريب الحرج».علمًا أن الكثير من الناشطين والباحثين يتفقون على أن العامل الابرز المؤثر في سلوك الأفراد ازاء المكان الذي يقصدونه، يتعلق بعاملي السلطة والرقابة لضمان الحفاظ على المكان، وبالتالي فان اهتمام الفرد بالحديقة العامة مرتبط بوجود ادارة توجه هذا الاهتمام.
«دخل الشبان الحرج «منتصرين». يصرخ أحد عناصر شرطة البلدية مستخفًا بـ«حماستهم كأنو فايتين على شوارع باريس»، فيرد عليه أحد الناشطين «بالنسبة النا هي أهم من هيك». لا يدرك ذلك الشرطي ربما، كما الكثير من المواطنين، أن المساحات العامة هي «حق» وخطوة دخول «الحرج» تأتي ، برأي هؤلاء، في سياق استرداد هذا الحق المسلوب منذ زمن.
أصر الناشطون على إثبات فكرة حرصهم على حديقتهم العامة، انتشروا بين التلال، منهم من عزف تحت الأشجار وغنى.. بعضهم افترش «حصيرة» وبدأ بلعب الورق، والبعض الآخر اصطحب أطفاله ليركض معهم. جهد هؤلاء لاستغلال هذه الساعات الثلاث، ليؤكدوا أن وجود متنفس في المدينة من شأنه أن يربطهم بها ويربطهم بأبنائها، مهما كانت اختلافاتهم. «لأنو بيجمع العالم ما بدون يفتحوه» يقول عباس(أحد المشاركين في النشاط)، لافتا الى موقع الحرج الذي يجمع ثلاث مناطق «حساسة» (مناطق توتر واختلاف سياسي)، فيما يجد آخرون أن إغلاقه هو لـ«غربلة» الأشخاص الذين يريدون الدخول اليه، وحصره بفئات دون أخرى، وهو ما ينسجم والميل الحاصل الى استثمار المساحة العامة في خدمة تحولات المدينة الجارفة، التي تنطوي على استبعاد تام لفئات واسعة من السكان، تماما كما يحصل على شواطئ البحر وغيرها من المناطق، فضلًا عن استبعاد كل ما من شأنه أن يوصل أصوات هذه الفئات!