باريس | كأنما أُقحمت تحت أبصارهم رسالة تحمل أخباراً مقلقة، يتنحنح زائرو معرض «اقرصني، إنني أحلم» للفوتوغرافية فرنسواز هوغييه (1942) الذي اختتم أخيراً في «البيت الأوروبي للفوتوغرافيا» وعيونهم تتلصص على عوالم موثقة وأخرى مشتهاة. مشهديات تلامس واقعية ضبابية تستجيب للألم المعاصر والقدرية التي تحيط الكائنات مهما كانت فظاظتها أو رقتها أو إباحيتها. لا مكان للحكمة في تجربة هوغييه.
التقاط الغائب واللامرئي والإعلاء من شأن الحلم في حكائية مبطنة، ملمح أصيل في أعمالها المنفتحة على رحلات جابت العالم بحثاً عن دهشة لا يمكن العثور عليها على أريكة البيت. يقدم لنا المعرض مجموعة أعمال تأسيسية لحضور فني نافر ونزق. خليط فريد بين التوثيق والدراما والكيتش، ينبهنا إلى المسافة التي قطعتها الفوتوغرافية بخفة مسافر زاده الخيال.
استدعاء للماضي بهدف محاكمته وتجريده من سحريته الخادعة، تحوّل إلى هاجس منذ أن تنزهت المصوّرة الفرنسية خارج إطار خريطات موسكو السياحية ودخلت المساكن الجماعية لمدينة سان بطرسبرغ «حيث بالإمكان رؤية الأشباح بالعين المجردة». إثر ثورة 1917، صادرت الحكومة البولشيفية الحسابات المصرفية الخاصة واستولت على الشقق والفنادق وقامت بتقسيمها بين المواطنين كحل موقت لتجاوز أزمة السكن. كان نصيب كل أسرة غرفة يتيمة مع حمام ومطبخ مشتركين. هذه المنظومة التي فرضها الاتحاد السوفياتي لا تزال متفشية كمرض، تجمع أناساً من مختلف الخلفيات والطبقات الاجتماعية في مناخ عصابي خانق، وقد أقامت هوغييه في واحدة منها في شارع سافيتسكايا ووثقت مسرحاً مصغراً نابضاً بحياة «ماضوية» لا يفترض أن تكون موجودة خارج الروايات الروسية للقرن التاسع عشر.
اشتغال الفوتوغرافية على مشهديات مأزومة شكلاً وموضوعاً، أخذ ملمحاً معمقاً في سلسلة «مساكن شعبية» (komunalka). نتعرف إلى نتاشا طفلة البيريسترويكا، شابة تشق طريقها في الحياة بلا آمال ولا أوهام، برباطة جأش يمكن وصفها بأنها غير بشريّة. تفتخر بأنها تعرف في كل لحظة ما تريده بالضبط (وهو ليس ما تريده في اللحظة التي تليها). حولها شخصيات مهزومة تنتظر دورها للطبخ والاغتسال وتنفخ دخان سجائرها في فضاء مغلق. لا شيء غير وقت ضائع ومسفوح، عقارب تدور في المعاصم وعلى الحيطان الرطبة. لا عزاء للشاعر والرسام المجهول روستيلوف ولإيرينا العجوز المعتلّة بموت ابنها في أفغانستان، وسانتا الممثل الذي لم يسعفه الحظ ليمثل وتاتيانا التي تحلم بأن تتخلص من المتقاعدين المفلسين، وتحيك الفخاخ لشراء الغرف الواحدة تلو الأخرى. ليسوا أبطالاً في كتاب لنغلقه. إنها عدسة هوغييه التي تستوعب قلق الروح وضعف الأشياء، تفزع العصافير الساذجة على ورق الجدران، وتكشف التصدعات خلف الأيقونات والأكواريل. تكاد تتناهى إلينا ضجة أغنيات قديمة، ونساء يرتبن الورود الطازجة والملابس الداخلية وقطع الأثاث التي لا تدّعي الانتماء إلى أي فترة زمنية، وبخاصة إلى الحاضر. تلتقي نظراتهن بقليل من النفور، وتعترف إحداهن وهي تتعرى بلا وجل رغم الوهن والبدانة «فرنسواز... تعلمين أنني لا أؤمن بالحب، وتعلمين أنني لا أؤمن بالصداقة».‏‏‏‏‏‏‏ الكاميرا مثل زلّات اللسان والسهو غير المقصود، تدنو وتلمس التشققات بين الأصابع والتجاعيد الضاحكة التي تظلل العينين الثملتين والوجه الملطخ بطبقات من البودرة. تعرّيها أكثر حين تتأخر في الاستيقاظ وتجلس بجوار الهاتف في أغلب أوقات النهار، أملاً في أن يرن، وحين يرن، لا تجيب. لا أحد يجيب. ربما تحّول القلب أيضاً إلى مساكن شعبية كما غنى محمد منير. ثمة رثائية واضحة للحرية الشخصية خلف مساحات مكتظة بتفاصيل تجهد العين. كأن تعطيل الحركة الخارجية يتحوّل في المعرض إلى ضرورة لتتبّع فوضى نفسية يصعب تعقّبها أمام كل ذلك الاحتشاد المُنفّر. حسناً، هذا في الحقيقة محبط. إذا لم ننتبه إلى أفعال صغيرة، سرية، تُدار في العتمة فنكتشف أن هناك حركة ما، سعياً ما لابتكار حياة، لتوسيع رقعة المكان الداكن. ولذلك تبدو الأعمال جديدة على الدوام، لا على مستوى تأويلاتها القابلة للاتساع والتفرع فحسب، لكن أيضاً على مستوى طاقة العمل والعلاقات البصرية واللونية التي تمسكها الفنانة بخصوصية آسرة.
لا تتخلى هوغييه عن طرح الحميمية كرد فعل على تهميش الفرد. تذهب إلى مناطق شديدة الخصوصية، من داكار إلى جيبوتي، تأخذنا على خطى الشاعر السريالي والأنثروبولوجي ميشال ليريس في كتابه «افريقيا الشبح» في سلسلة صور سرّية لمخادع نساء بوركينا فاسو ومالي. وتدعونا إلى سيبيريا القطبية حيث تغطي سهول حليبية مساحات غير معقولة لا يعكرها سوى دماء الأيائل التي يتم صيدها للغذاء والتدفئة. لقطات بطيئة تساجل سينما أندريه تاركوفسكي وتترك انطباعاً حسياً قاسياً حول معنى الخواء وغريزة القتل. ومن المؤكد أنها تذكّر المؤرقين الذين يعدّون الخراف بيأس وإيمان في الرابعة صباحاً، بوثائقيات قناة arte عن رحلات بروس باري القطبية. أما العوالم الصغيرة المضيئة لراهبات كولومبيا، فتجد حيزاً واسعاً في مخيلة المشاهد تستثمر التراث الأيقوني المسيحي وفيلم «تيريز» لألان كافالييه.

لقطات بطيئة تساجل سينما تاركوفسكي وتترك انطباعاً حسياً حول معنى الخواء

ولكثرة الإحالات المعرفية والنقدية والتاريخية إلى مراجع هي خارج حقل الرؤيا، كل شيء يصبح هنا مادة للتأمل والمساءلة. لكن قليلاً ما تغفل أعمال هوغييه المرأة. هي الدبوس الصغير الذي يصل قطع الخرائط المبعثرة، فتبدو الفواصل وهمية والحدود محض افتراض. تترك الروسيات غارقات في أكواب الكريما المثلجة والكحول المحلية لتستقصي عارضات كريستيان لاكروا في كواليس «الهوت كوتور» محاطات كدمى البورسلان بقبعات وأقمشة ومعادن. وقد خصصت مساحة لتجربتها في فوتوغرافيا الموضة مع صحيفة «ليبيراسون». مع ذلك، حضرت الأزياء بعيداً من المبالغة وتناولت الناحية الأكثر جدية منها، أي ما يمس الهوية والمظهر. امتزاج ثقافة البوب بالحجاب الإسلامي في بلدان جنوب شرقي آسيا مثلاً، يضعنا أمام تصورات وهواجس مختلفة. تبدو الرؤى التحررية عالقة في مكامن من الصراع الوجودي، في منطقة محيرة بين المضي قدماً أو البقاء في عهدة الماضي.
ليس فقط من باب الحنين، تترك هوغييه باباً مفتوحاً ليتسلل الماضي ومعه لسعات النمل الأسود، وحمى المستنقعات، وقدميها اللتين رأتهما تكبران بسرعة في حذائها حين اختطفها ثوار «الفيت مين» من مزرعة للمطاط كان يديرها والدها في كمبوديا. بعد نصف قرن، تعود باحثة عن معسكر الاعتقال وتصور الأهالي والأطفال الذين كانوا بالأمس يجندون بالقوة. نرى الدائرة التي تقع فيها المزرعة وقد غزاها العشب البري وغطت الطحالب مياه المسبح الراكدة. مجموعة «كان عمري ثمانية أعوام» نابعة من بتر داخلي لا شفاء منه سوى اجتراره وإعادة تشكيله في صيغ متعددة حتى يحدث الخلاص من وطأة ذلك الألم، بالأحرى التصالح معه وقبوله بل حبه في النهاية.
رغم ارتباط هذه الأعمال بوقائع وتسجيلات، إلا أن فرنسواز هوغييه لا تسعى إلى اختزال الزمن، بل إلى تأكيد حيويته. تدفع الذاكرة إلى الأمام. تحتفي بالمُلغى والمستتر وتموّه الحدود بين الوثيقة والإبداع لتتركنا معلّقين بحبال الحيرة، أمام أحمر شفاه فاقع لراهبة تبتهل تحت قدمي العذراء في كولومبيا أو«رسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، لا تدلّيه لمعشوقها كي يصعد إلى مطابخ سان بطرسبرغ المشتركة.

* تقيم صالة «بولكا» في باريس معرضاً آخر للفنانة بعنوان «جمال غريب» يستمر حتى 5 أيلول (سبتمبر) ـــ
http://www.polkagalerie.com




أبطال طالعون من القصص القديمة

يتوقف التاكسي في شارع سافيتسكايا، فيسكت مذياع يغني tombe la neige لسلفاتور أدامو (بصوت روسي!) وتنزل امرأة على أطراف أصابعها كراقصة الباليه متجهة إلى غرفة سيئة التدفئة. أليس هذا كافياً لصناعة فيلم؟ «يجب أن تكون للقصة بداية ووسط ونهاية، لكن ليس بالضرورة بهذا الترتيب» تبدو فرنسواز هوغييه مقتنعة تماماً بهذه المقولة الغودارية وهي تحوّل «kommunalka» إلى فيلم وثائقي (2009) وتنفخ روحاً جديدة طازجة في أبطال قادمين من زمن القصص القديمة. مغامرة تؤجج فعل الخيال والأسطرة رغم النقص والقسوة واستحالة القول إلا عبر مسالك معقّدة.