نفرّق ابتداءً بين «ثقافة» و«نزعة»، لأن الثقافة تندكُّ في مجال الانشغال العقلي وما يؤسس له من تصوّرات، ونهج تفكير، وسلوك عام، أما النزعة فلها علاقة بالسلوك النفسي للفرد، فإذا تحول إلى سلوك جمعي يكون ثقافة عامة.ويبدو الأمر على درجة كبيرة من الخطورة والتعقيد حين ترتدي الثقافة لبوس الدين، فحينئذ نكون أمام احتدامات مفتوحة تبدأ بالفكر وتنتهي بالسلاح. فمتى أصبح الصراع داخل «المقدّس» و«المتعالي» لا يعود هناك جهة قادرة على ضبط حدوده ومدياته، فالكل ينطق باسم السماء، ولن يتوقف الصراع إلا بعد أن يعود الجميع إلى الأرض، إلى حيث يجب أن يعيش بنو البشر بأمان تام، وتحقيق مبادئ التعايش بين المعتقدات، والتسامح الديني، وحرية الفكر.

في الداخل الإسلامي، هناك من لا يزال أسير نصوصه القديمة (لا نعني النص القرآني أو النبوي)، فهو يبني مواقفه على أساس أفهام لا يزال يعتقد بصلاحيتها، وبالتالي فهو يرفض مبدأ الانفتاح والشراكة. ولذا، تتفاوت درجة قبول الآخر بين حزب ديني وآخر بحسب انفتاحه الثقافي، بل وداخل المكوّن العقدي الواحد، ففي داخل الأحزاب السلفية، على سبيل المثال، هناك خلاف شديد حول مبدأ قبول الشراكة. حزب النور السلفي يعتبر من وجهة نظر «داعش»، وهو أحد تنظيمات السلفية الجهادية، أنّه مرتد، ويطلق عليه حزب الظلام، لأنه شارك في العملية السياسية في مصر، ودخل في الانتخابات البرلمانية التي توصل إلى مجلس الشعب، السلطة التشريعية، حيث يشرّع نوابه قوانين ليست مستمدة من الكتاب والسنّة، وبالتالي يصدق عليها الحكم بالكفر، لأن كل دولة لا تحكّم شرع الله فهي دار كفر. من نافلة القول، يكفّر داعش كل الجيوش العربية والإسلامية لأنها تحمي دولاً لا تطبق شرع الله، ويكفّر السياسيين والأحزاب ومن يعين الطواغيت للسبب ذاته.
لقد خاضت غالبية الأحزاب الإسلامية السنيّة والشيعية جولات متوالية من المراجعات الفكرية على خلفية تحوّلات سياسية، فأعادت كتابة برامجها السياسية. ويمكن القول إنّه منذ تسعينيات القرن الماضي شهد الإسلام السياسي تحوّلات دراماتيكية في البرامج السياسية، وتوصّل كثير من الأحزاب إلى ما يشبه المزاوجة بين الإسلام والديموقراطية، والإسلام والليبرالية، وعلى أساس تلك المزاوجة صيغت البرامج السياسية.
نقرأ في البرنامج السياسي لكل من حزب الدعوة الإسلامية في العراق بعنوان «برنامجنا» الصادر في آذار 1992، والإخوان المسلمين في مصر (الميثاق الوطني لعام 2010)، وحركة النهضة التونسية (من أجل تونس الحرية والعدالة والتنمية ـ أيلول 2011)، وفي خطة جماعة الإخوان المسلمين في سوريا في بناء الدولة، في كانون الثاني 2013، والحركة الدستورية الإسلامية في الكويت (حدس) في (آذار 1991)، وجمعية الوفاق الوطني البحرينية (2001)، وغيرها، إقراراً بالتمسّك بـ«النظام السياسي الديموقراطي البرلماني»، و«حق الفرد في المشاركة السياسية الفاعلة...» والمشاركة السياسية، وأن «الشعب هو مصدر جميع السلطات»، و«احترام مبدأ تداول السلطة عبر الاقتراع العام الحر والنزيه»، و«تأكيد حرية الاعتقاد الخاص.. وحرية الرأي والجهر به، وحرية تشكيل الأحزاب السياسية...» إلى جانب بطبيعة الحال «استقلال القضاء وحرية الإعلام...»، وصوغ دستور «يضمن تمثيل جميع فئات الشعب... وينظم مبدأ التداول السلمي للسلطة في ظل تعددية سياسية واضحة».

ثقافة الاستيعاب لم
تحتل أي مكان في أداء النخب السياسية الجديدة


المتبنيات الديموقراطية هذه تعتبر دون أدنى ريب متقدّمة بالمقارنة مع التصورات المتشدّدة السابقة إزاء الديموقراطية لدى الأحزاب الاسلامية عموماً، ولكن ماذا عن الممارسة على الأرض؟
في قراءة تجارب الإسلاميين في مصر وتونس والعراق وسوريا والكويت والبحرين ما يستحق وقفة تأمّل. في التقويم العام لتجربة حكم الإخوان المسلمين في مصر، يظهر أن الإخفاق السياسي وتالياً السقوط يعود، في حقيقته، إلى فشل نظام مرسي في استيعاب الآخر، وإشراكه، ومقاسمته. وظهر أن المتبنيات الديموقراطية لم تتجاوز إطارها الشكلي ولم تتحوّل إلى ثقافة، إذ منذ لحظة وصول الإخوان إلى السلطة تصرّفوا على أنهم حكّام دائمون، ويجب أن يتصرفوا على هذا الأساس.
في الدول غير المكتملة التكوين ديموقراطياً لا يمكن تطبيق مبدأ الأغلبية والأقلية، في ظل عدم تبلور حياة سياسة مستقرة، وثقافة سياسية تقبل مبدأ حكم الأغلبية، فما بالك إذا أسهمت صناديق الاقتراع في تعزيز النزعة التسلّطية لدى الحكم وثقافة احتكار السلطة المؤسسة على مدّعيات أيديولوجية.
كان يمكن الإخوان تفادي السقوط لو نجحت قيادة الجماعة في فتح إطار الشراكة السياسية أمام الأطراف الأخرى، لتحقق مبدأ الشراكة السياسية، وإرساء ثقافة حكم تعددي بدلاً من حكم اللون الواحد، الذي جعل من الجماعة، في نهاية المطاف، معزولة ومستهدفة من أطراف عدّة، تعتبر نفسها خاسرة في ظل حكم الإخوان. من حسن حظ حركة النهضة التونسية أنها لم تحصد أغلبية ساحقة في أول انتخابات للمجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011، إذ تقاسمت النتائج وفازت بـ 89 مقعداً من أصل 217، أي نحو 42% من المقاعد، ودخلت في ائتلاف حاكم مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية برئاسة منصف المرزوقي، رئيس الجمهورية الحالي، وحزب التكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات وأطلق عليه حكم الترويكا.
وفي النتائج تأسست حكومة شراكة، كانت فيها «النهضة» طرفاً رئيسياً، ولكن شعور قادة «النهضة» بأنهم الرقم الصعب والأكبر في معادلة الحكم التونسي خلق مشكلة لديهم بقبول الآخر دون شروط، فراحوا يستعيرون نفس مقولات النظام السابق الذي حاربوه في توجيه اتهامات من قبيل تلك التي وجّهها زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي خلال ندوة صحافية في نيسان 2012 لما سماها «اللجان الثورية الستالينية» بأنها «تقف وراء إثارة الفوضى والبلبلة في البلاد». وقال إن «من يتبنون فكر العنف الثوري ذا المنهج الستاليني هم من يسعون إلى إطاحة الحكومة وبث الفوضى في البلاد».
حينذاك، بدأت أزمة الحكم في تونس تنتقل من الأحزاب إلى الشارع، وعادت التظاهرات إلى المدن التونسية تطالب بإسقاط حكومة النهضة. وفشلت الوساطات بين الأخيرة وأحزاب المعارضة، وأعلنت جبهة الإنقاذ الوطني في تونس في 24 آب 2013 أنها لن تبرح الشوارع إلى حين إسقاط حكومة «النهضة» وحليفها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية. وأصدرت المنظمات الراعية للحوار الوطني بياناً حمّلت فيه «النهضة» وشركاءها مسؤولية ما يجري في تونس، بعد رفض حل الحكومة قبل إطلاق الحوار الوطني. تمسكت «النهضة» بموقفها الرافض لمطالب المعارضة، فازدادت الأوضاع تأزّماً، وباتت «النهضة» أمام تحدٍّ خطير، بعد توحّد الشارع ضدها.
قبلت «النهضة» مطالب المعارضة واستقال رئيس الحكومة علي العريض في كانون الثاني 2014 في إطار مبادرة الحوار الوطني برعاية «الرباعي» الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل، ما أفسح في المجال أمام تشكيل حكومة شراكة واسعة. وسواء كان خروج «النهضة» من الحكومة عن طواعية أو بالإكراه، فالإنصاف يملي الإشادة بهذه الخطوة التي أنقذت تونس من الفوضى و«النهضة» من الفناء السياسي.
ما ظهر في التجاذب السياسي أن الأغلبية البرلمانية التي حظيت بها «النهضة» ما لبثت بعد سنتين من الممارسات السياسية الخاطئة أن تحولت إلى أقلية في الشارع، وهذا مؤشر كافٍ إلى المستقبل السياسي للحركة.
لفتة أخرى، أن دخول نواب «النهضة» في جدالات حادّة مع نوّاب المعارضة خلال مناقشة مسودة الدستور الجديد في تموز 2013، حول «تجريم التكفير والتحريض على العنف» جعل منهم طرفاً مناهضاً للحريات. الصيغة المعدّلة للفصل السادس تقول إنّ «الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. يحظَّرُ التكفير والتحريض على العنف».
في العراق، لم تكن تجربة الحكم في العراق تحت قيادة نوري المالكي إيجابية، فقد بلغ التجاذب والخلاف على «الحصص» حدّاً خطيراً، كان من أخطر نتائجه إمكانية انفلاش العراق بعد سيطرة داعش على الموصل خلال ساعات، وإخفاق الدولة في وقف تمدّد مقاتلي التنظيم في المحافظات العراقية، فيما الفساد المالي والإداري يأكل من رصيد الدولة العراقية.
في البحرين، فازت «جمعية الوفاق الوطني» البحرينية في الانتخابات البرلمانية في انتخابات 2010 بـ18 مقعداً من أصل 40 مقعداً. وفق المنطق الدستوري، يحق للجمعية أن تعمل على أساس هذه النتيجة، وتشكّل أغلبية برلمانية، ولكن المشكلة تحيلنا إلى عالم آخر، وهو الفارق بين «القانونية legality» و«المشروعية legitimacy»، فقد يكون دستور ما يمنحك الحق في أن تنال أغلبية برلمانية نتيجة لخلل في الدوائر الانتخابية أو القانون الانتخابي، أو حتى لأسباب أخرى مثل حصول حزب ما على فرص أفضل من غيره، ولكن ليس بالضرورة أن تتأسس الأغلبية البرلمانية على مشروعية شعبية. فالمشروعية تعزّز القانونية، ولكن الأخيرة تقوّي الحكم التسلّطي... بطبيعة الحال، قد لا يكون المثال هنا ينطبق على الوفاق التي تناضل من أجل «صوت لكل مواطن» في دولة لا تزال تصرّ على قانون انتخابي جائر ودوائر انتخابية غير متكافئة، ولكن الكلام ينحصر في مجال الجمعيات السياسية المعارضة وكيف تكون العلاقة في ما بينها.
في الممارسة الديموقراطية، إن أولى ركائز ثقافة الاستيعاب هو الاعتراف بالتنوّع والإقرار بحق الآخر في المشاركة، ومن هنا يبدأ فتح الباب على ديموقراطية النظام السياسي من عدمها.
وقد بدا واضحاً من تجارب الربيع العربي عموماً أن ثقافة الاستيعاب لم تحتل أي مكان في تفكير وأداء النخب السياسية الجديدة التي ورثت النخب الحاكمة السابقة، بل على العكس كانت شهوة السلطة لديها أشدّ شراسة بسبب طول فترة الحرمان، ورغبة في ضمان فرصة البقاء في السلطة لزمن أطول، ما جعل النخب السياسية الإسلامية تتصرف وكأن السلطة امتياز حصري لها، تماماً كما الشعور الذي ينتاب أي سلطان حصل على السلطة من طريق القوة أو الفرصة المناسبة.
الإقصاء لم يعد مجرّد نزعة سلطوية تنتاب فرداً أو جماعة، بل قد يتحوّل في مرحلة ما إلى ثقافة تكتسي مفردات من نوع محدّد أو مواقف إزاء قضايا بعينها. وقد يأخذ الإقصاء شكلاً عنيفاً كما يحدث في الانقلابات العسكرية، فيحل نظام عسكري مكان آخر مماثل أو مختلف، وربما أخذ أسلوباً ناعماً بأن تكون ثقافة الحزب الحاكم أو الطبقة الحاكمة قائمة على النبّذ والطرد واحتكار الحق.
في تجارب الربيع العربي بدا جليّاً أن الإقصائية لا تزال ثقافة راسخة، وما يزيد في خطورتها أنها تستند إلى مدّعيات دينية. فالنخب التي حكمت في مصر وتونس وتسعى إلى الحكم في ليبيا وسوريا تنزع بقوة نحو احتكار السلطة استناداً إلى القوة المجرّدة (الجيش، التنظيمات المسلّحة، الميليشيات الحزبية)، أو المدعيات الأيديولوجية (تطبيق الشريعة، احتكار الحقيقة الدينية...).
حين يتسيّد المشهد العام لون سياسي واحد في مجتمع تعددي يعني أننا أمام أزمة حكم. ومهما طال الزمن لن يغيّر من حقيقة كونها أزمة، فالأزمة لا تأخذ في البداية شكلاً سياسياً، فقد تنعكس في توترات اجتماعية، وأوضاع اقتصادية متردية، وفساد إداري متنقّل، واضطرابات أمنية، قبل أن تصل إلى لحظة الانفجار السياسي الكبير الذي يطيح الكيان. ولا يكون خط سير الأزمة على هذا النحو حتمياً، فقد تساعد ظروف داخلية أو خارجية في تسريع العملية فتطيح النظام.
في الأخير، إن الأحزاب الإسلامية بحاجة إلى ترجمة المتبنيات الديموقراطية إلى ثقافة وسلوك عام، وحين تصل إلى السلطة عليها أن تفتح أبوابها لأكبر عدد من الأحزاب السياسية بصرف النظر عن انتماءاتهم الأيديولوجية والسياسية كي تضمن البقاء في السلطة والاستقرار في الدولة.
* باحث وناشط سياسي