من وفرة الدروس التي خرجت بها انتخابات 17 آب 1970، ليس بين المرشحين سليمان فرنجيه والياس سركيس فحسب، بل ايضا بين الافرقاء الذين خاضوها وانتموا اساسا الى النصفين اللذين انقسم من حولهما مجلس النواب، وهما «النهج» الشهابي و«الحلف الثلاثي» وحليفه «تكتل الوسط». انخرطوا آنذاك في شتى اصناف المناورة، وتوجيه الخيارات، وضبط اصوات النواب، والتلاعب بدورات الاقتراع، ولوائح المفاتيح الانتخابية، وتفاوض الدقائق الاخيرة، وصولا الى الخلاف على النصاب. من وفرتها يُحَار من اي مقاربة تصحّ بين ذلك النموذج المثالي ـــ كما وُصِف ـــ وما امسى عليه استحقاق 2014 في مجلس النواب بين الكتلتين الكبريين الاخريين اللتين ينقسم من حولهما، وهما قوى 8 و14 آذار.
قيل اولا في انتخابات 1970، انها الوحيدة في انتخاب الرئيس اللبناني التي لم يحصل فيها تدخل خارجي اقليمي او دولي بغية فرض المرشح. وهو قول غير دقيق، لان انتخابات 1970، شأن سواها، ادركها التدخل الخارجي لكن بشقين مستورين: اولهما دور أداه السفير السوفياتي آنذاك سرغار عظيموف لتأليب كمال جنبلاط ضد مرشح الشهابية، فأتاح تشتيت اصوات نوابه الثمانية مناصفة بين المرشحين المتنافسين. ثانيهما انكفاء غير مسبوق للناصرية للمرة الاولى منذ عام 1958 عن تأييد مرشح الشهابية، للسبب نفسه الذي اباح تدخل عظيموف، وهو كشف محاولة الاستخبارات السوفياتية خطف طائرة ميراج لبنانية قبل سنة في ايلول 1969. تركت الناصرية حلفاءها النواب اللبنانيين يقرّرون خياراتهم بأنفسهم، وقد أخطروا بامتعاضها من رجال الشهابية ورغبتها ـــ كعظيموف ـــ في معاقبتهم ومرشحهم. في لغة اليوم كان ثمة «فيتو» اقليمي ـــ دولي على انتخاب سركيس.

ليس صحيحاً أن
انتخابات 1970 لم يحصل فيها تدخل خارجي إقليمي أو دولي

انتهى استحقاق 1970 بمنافسة ديموقراطية غير مألوفة، لكن بحد أدنى من النزاهة. حالما انسحبت الناصرية حتى ولج المال الى اللعبة لشراء الاصوات بإرادة الطرفين على السواء. كان من السهل آنذاك شراء صوت نائب بـ25 ألف ليرة لفك ضائقته.
قيل ثانيا في انتخابات 1970، إنها الانتخابات الوحيدة التي شهدت ثلاث دورات اقتراع عبّرت عن اصرار النواب على حصول الانتخاب بأي ثمن. وهو قول غير دقيق، لان الدورة الثانية من الاقتراع التي ألغاها رئيس المجلس صبري حمادة عُدّت باطلة بعد اكتشاف أن عدد اوراق الاقتراع اكبر من عدد النواب المقترعين (100/99). عُزي السبب الى العميد ريمون اده، الذي مزّق ورقة اقتراعه إلى اثنتين بعدما ابصر النائب احمد اسبر، عضو كتلته، يغمز حمادة اشارة منه الى اقتراعه لسركيس. القى اده الورقتين وأعطب التصويت، فذهب البرلمان الى دورة اقتراع ثالثة. طلب «العميد» من النائب سايد عقل الجلوس قرب اسبر ومراقبته لحظة الاقتراع بعدما وشوشه بالتزام قرار الحزب التصويت لفرنجيه. لم تكن الدورة الثالثة سوى دورة ثانية فحسب، ابرزت وطأة التنافس بين الكتل، وهامش مناورة اوسع من المتفترض لمنع إحداث اختراق في الحسابات المتوقعة.
قيل ثالثا إنها الوحيدة حتى ذلك الوقت التي اثارت مسألة نصاب الانتخاب، وتجاوزها النواب في قاعة الجلسة في سبيل احترام التصويت للرئيس، وعدم التذرع بالنصاب لتعريض الاستحقاق للفشل. وشأن كل الاستحقاقات التي سبقته او خلفته حتى عام 1988، لم يكن المجلس قد اكمل الشهر الاول من المهلة الدستورية المستمرة الى 23 ايلول. بيد ان المشكلة ليست على نحو هذا الوصف.
في برلمان 1968 بنوابه الـ99، كان نصاب انتخاب الرئيس من الدورة الثانية النصف +1، شأن ما كان عليه في كل الاستحقاقات منذ اعلان الجمهورية عام 1926، في حضور ثلثي النواب. في حصيلة الدورة الثالثة، حاز فرنجيه 50 صوتا، وسركيس 49 صوتا، الا ان رئيس المجلس اعتبر نصاب الفوز غير دستوري، في ضوء قرار كانت قد اعلنته هيئة مكتب المجلس لايام خلت، هو ان الفوز من الدورة الاولى يقتضي 66 صوتا (الثلثين)، ومن الدورة الثانية او التي تلي 51 صوتا (الاكثرية المطلقة)، آخذة في الاعتبار ان نصف عدد النواب هو 49,5. ولان كسر الرقم يساوي رقما كاملا (49,5 = 50 +1)، بات الفوز بـ51 صوتا. رفض حمادة النتيجة، وترأس فورا هيئة مكتب المجلس، بعدما خابر الرئيس فؤاد شهاب، الذي طلب منه الاستجابة لارادة المعارضة. على الاثر اعلن ان نصاب الفوز 50 صوتا، ومن ثمّ فوز فرنجيه بالاكثرية المطلقة.
كان المخرج سياسيا لخلاف دستوري سوّاه شهاب بالتسليم بخسارته الاستحقاق وفوز معارضيه بفارق صوت واحد، الا ان احدا لم يُثر نصاب الالتئام في كل الدورات، وهو ثلثا المجلس. الاصحّ ايضا في جلسة 17 آب انها، بعد استحقاق 1964، المرة الثانية على التوالي منذ الاستقلال التي يحضر فيها النواب جميعا جلسة الانتخاب.
قيل رابعا في انتخابات 1970، انها انتخابات التنافس الماروني غير المسبوق في تاريخ الاستحقاقات بين اقطاب، كلٌ منهم يريد نفسه رئيسا، ويعرف في الوقت نفسه بعقبات مانعة وصوله. مع ذلك امكن انقاذ الاستحقاق بسواهم. في هذا الوصف نصف الحقيقة. في انتخابات 1936 كان اول عهد «الاقتتال» الماروني ـ الماروني على الرئاسة بين المرشحين اميل اده وبشارة الخوري، وفاز الاول من الدورة الثانية بفارق خمسة اصوات في برلمان من 25 نائبا.
الا ان انتخابات 1970 ارست النموذج الاسطع عن هذا التنافس، قبل ان يصبح في استحقاقي 2007 و2014 اقرب الى «الاقتتال» مجددا: في «الحلف الثلاثي»، الذي ضم الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل وريمون اده، كان الثلاثة مرشحين للرئاسة منذ الانتخابات النيابية عام 1968، ولم يكن اي منهم يريد الآخر رئيسا، ولا في وسعه ضمان انتخابه هو باستقطاب تأييد مجلس النواب اليه. في المقابل كان الثلاثة معا ضد اعادة انتخاب شهاب رئيسا، لكن الذي افتى بحلّ يمنع وصول سركيس ـــ بعد عزوف الرئيس السابق ـــ ويكرّس انتصار «الحلف الثلاثي» وحلفائه في الاستحقاق من دون ان يفوز احد من اعضائه، كان كاثوليكيا هو جوزف سكاف، الذي رشح فرنجيه بعدما توقع الفوز بصوت واحد. اخذ بحجة ان نائب زغرتا يحضر وصوته معه. بدا المطلوب بالنسبة اليه فوز الفريق، لا الشخص. وهو ما حصل. كان كلٌ من الزعماء الموارنة الثلاثة يستحق المنصب من دون امكان بلوغه اياه، فيما التحدي الاقوى الماثل امامهم منع انتخاب سركيس. قبل 12 عاما كان ثمة كاثوليكي اول افتى بحلّ بين مرشحين مارونيين جديرين، هو يوسف سالم، احتكم اليه في انتخابات 1952 كميل شمعون وحميد فرنجيه.
لعلّ استحقاق اليوم، في حدته المارونية، فيه بعضٌ من انتخابات 1970: الزعماء الموارنة الاربعة، الرئيسان امين الجميل وميشال عون والنائب سليمان فرنجيه وسمير جعجع، يريد كل منهم ان يكون الرئيس وهو لا يملك حظ الوصول. لا يريد في المقابل وصول اي من الثلاثة الباقين. وخلافا لـ«الحلف الثلاثي» حينما كانوا شركاء، ينقسم موارنة اليوم مناصفة بين فريقي 8 و14 آذار. لا يريدون بعضهم بعضا، ولا يطلبون احدا من خارجهم، ولا يبدون مستعدين في الشهر الرابع من الشغور للتوافق على خامس، ولا يجدون كاثوليكيا يفتي الحلّ.
في انتخابات 1970 فاز فرنجيه بعدما استقطب شرائح البرلمان كلها: من الرئيس صائب سلام اخذ نصف اصوات النواب السنّة، ومن الرئيس كامل الاسعد نصف اصوات النواب الشيعة، ومن كمال جنبلاط نصف نواب كتلته، بينما واجه في المقلب الآخر النصف الثاني من الاصوات السنّة مع الرئيس رشيد كرامي، والاصوات الشيعة مع الرئيس صبري حمادة، والنصف الثاني من اصوات كتلة جنبلاط.
بل لعلّ المهم في ذلك كله، ان فرنجيه لم يكن حينذاك زعيما مارونيا اول كشهاب وشمعون والجميل واده، بل خامسهم في الترتيب. لم يكن الزعيم الزغرتاوي الوحيد ايضا في مسقطه. ثلثا الزعامة الزغرتاوية كانا في مكان آخر: النائب رينه معوض مع الشهابية، والنائب الاب سمعان الدويهي مع شمعون في «الحلف الثلاثي».
ليس هذا فحسب ما يستعاد من انتخابات 1970.