جامعة الإمام محمد بن سعود قد تكون أكبر الجامعات الإسلامية في العالم. مقرّها الرئيسي في الرّياض بحجم حيٍّ كبير، مساحته ملايين الأمتار المربّعة، ولها فروعٌ في مختلف المدن السعودية والعديد من عواصم العالم الإسلامي. تمويلها ضخم، وهي تحوي أكثر من عشرين ألف طالب يدرسون الشريعة واختصاصاتٍ أخرى، وهي تخرّج العلماء والمختصين بأعدادٍ كبيرة منذ عقود، وتصدّرهم الى مختلف أرجاء الدنيا.
المشكلة في الاقتصاد السياسي للمعرفة هي أنّه لا يعترف بـ«النوعية»، بل هو يحدّدها ويصوغ مقاييسها. يمكننا بسهولة أن نتخيّل سيناريو تظهر فيه ثروات ضخمة في ولاية أميركية زراعية ومتديّنة، آلاباما مثلاً، فتصير ثقافتها هي الثقافة السائدة في أميركا، ويصبح التديّن الإنجيلي المتطرّف نمطاً مهيمناً يروّج له الإعلام ويدرّس في الجامعات، وينتشر في العالم عبر إرساليات ومدارس وبعثات. هذا، تقريباً، هو ما جرى في بلادنا في العقود الأخيرة مع ظهور الثروة النفطية في الخليج.
نجد في مكتبة الملك فهد عناوين «الرسائل العلمية» (ماجستير ودكتوراه) التي أودعها متخرجو جامعة الإمام بن سعود، وهذه عيّنة (ليست غير تمثيلية) من هذا الإنتاج: «النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية»، «أوجه الشبه بين اليهود والرافضة في العقيدة»، «منهج ابن تيمية في مسألة التكفير»، «النوافض للروافض»، «صب العذاب على من سبّ الأصحاب»، «اليمانيات المسلولة على الرافضة المخذولة»، «الحجج الباهرة في إفحام الطائفة الكافرة الفاجرة»، «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة وأهل الإلحاد» و«الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة»، الخ...
العناوين المذكورة أعلاه تمثّل، بكلّ المقاييس، «صفوة» الإنتاج الفكري الوهابي بعد عقود من الثروة والاستثمار المكثّف في التدريس والدعوة. لا حاجة لأن نقارن التعليم الوهابي بما يخرج من باقي الحواضر الإسلامية اليوم، يكفي أن نقارنه بأعمالٍ عمرها ألف عام لمذهبٍ قديم، كالباطنية الإسماعيلية. رسائل إخوان الصفا التي تعود الى القرن العاشر، والتي ينسبها العديد من المؤرخين الى الدعوة الإسماعيلية، كانت بمثابة موسوعة حقيقية، فيها رسائل _ لم تصلنا كلّها _ في مواضيع تتراوح بين الموسيقى والحِرف والفلسفة والمنطق، مكتوبة بأسلوبٍ سلسٍ وجميل. يقول المعلّم الراحل عبد العزيز الدوري إنّ إخوان الصفا صمّموا رسائلهم بحيث تتضمّن كل المعلومات التي يحتاج إليها إنسانٌ «مثقّف» في العصر العبّاسي، حتى يكون ملمّاً بقضايا زمنه وعلومه. لا يجب أن نستغرب انتشار الإلحاد في بلادنا في العقود المقبلة إذا ما طغى الفكر الوهابي على القيروان والأزهر والزيتونة والنجف، وصار «الإسلام» يمثّله تيّارٌ لا يرى في إخوان الصفا إلّا «القرامطة والباطنية أهل الإلحاد».