بعد سنوات ستصبح بيروت مدينة خالية، بلا سكان. مدينة مهجورة تقبع وحدها وسط ساحل لبنان بين أبراج الأغنياء ومجمّعاتهم. تدخل إليها زائراً وعاملاً لكن ليس قاطناً، تطردك مع انتهاء النهار لتُعيدك إلى مكانك. لا يهم أين، المهم أنك خارجها. هذا المخطط هو سياسة منهجية قائمة بدأت معالمها بالظهور منذ زمن طاردةً كل من لا يملك رأسمال. بيروت للأغنياء فقط، مدينة مغلقة تتوفّر فيها جميع الخدمات، أما الفقراء خارج معادلة الدولة وحكّامها. سياسة واضحة لتحقيق نقاء طبقي بامتياز تريد لـ «الثلاثة بالمئة» الذين يسيطرون على البلد أن يُحكموا قبضتهم عليه أكثر. حيتان الأموال تنقضّ على أحياء بيروت لتبتلع أبنيتها القديمة وترمي السكان خارجاً. الدالية، الأشرفية، الخندق الغميق، الأوزاعي... وأخيراً وطى المصيطبة، جميعها يمكن أن تشكّل نموذجاً جزئياً للمخطط الذي يتم تحضيره لهذه المدينة.
يرى المعمار رهيف فياض أن الدولة تنتهج سياسة تقوم على مبدأ الريع ما يجعل المصارف وأصحاب رؤوس الأموال متحكمين أساسيين في الاقتصاد.

جزء من هذا المبدأ يرتكز على تشجيع الريع العقاري بشكل خاص. إذاً جميع مشاريع استبدال الأحياء الشعبية بناطحات سحاب ومجمعات ضخمة تدخل ضمن عملية مضاربة صافية نظراً إلى ارتباط الاقتصاد بالريع العقاري. تأتي هذه السياسة نتيجة تراكمات عديدة بدأت مع مرسوم تنظيم الشواطئ، وقانون البناء وصولاً إلى قانون الإيجارات. يؤكّد فياض أنّ قانون البناء وُجد ليجعل من ملاكي بيروت جميعهم أغنياء من خلال التشديد على محفزات الملكية الكبرى وتدمير الملكيات الصغيرة، أما قانون الإيجارات فهو مكمّل لهذا القانون، وبالتالي كل من يبني أو يشتري عليه أن يكون غنياً.
ما يجرى العمل عليه الآن في الدالية والوطى والمناطق الأخرى صحيح جداً من وجهة نظر المضاربين العقاريين. يقول فياض إنّ «كلفة البناء اليوم أقل، اليد العاملة أرخص نظراً إلى توفر عدد كبير من العمال السوريين، وبالتالي فإن البناء الآن صحيح جداً بالمعنى المالي. أما البيع سيء جداً لأنه لا توجد سوق حالياً، لذلك يقوم المضارب العقاري بالبناء اليوم ليبيع بعد سنوات عدّة».
المشاريع التي يُحضّر لها تحمل انعكاساتٍ خطيرة على السكان والمحيط، إذ ستغيّر بشكلٍ جذري وجه المنطقة وستدمّر نسيجاً اجتماعياً قائماً على علاقات وعادات «قروية». «المجمّع التجاري لا ينافس مجمّعاً آخر، بل ينافس الدكاكين الصغيرة» يقول فياض.
ما قد يكون خفياً على الكثيرين أن ما ينتظر أبناء المدينة نتيجة زحف «الوحوش العقارية» ليس محصوراً بمنطقة دون أخرى، تداعيات التحولات التي ستشهدها منطقة وطى المصيطبة مثلاً ستطاول المناطق المحيطة. «ستنهار» دكاكين طريق الجديدة والكولا في وجه الأبراج التجارية الضخمة، سيحتدم الضغط على المناطق المجاورة، وسيرتفع ثمن العقارات في تلك المناطق نتيجة ضغط الطلب عليها. كذلك السير سيصبح مستحيلاً داخل بيروت وعلى مداخلها تحديداً بسبب الإقبال الكثيف عليها من قبل السكان الذين طُردوا خارجها وبقيت هي مكان العمل الوحيد لهم. المنطقة أيضاً لديها امتداد مفتوح باتجاه البحر ما يعني أنّ وجهة الزحف العقاري لن تتوقف هنا!
إشكالية أساسية تُطرح نتيجة تهجير السكان من بيوتهم. هل يجوز نقل هؤلاء الناس إلى مكان بعيد من المكان الذي اعتادوا العيش فيه خلال عشرات السنين؟
يؤكّد فياض أنّ «نقل الناس سيؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي الذي عاشوا فيه واستبداله بنسيج آخر يستحيل فيه إقامة علاقات جديدة. سيوزّعونهم على أماكن مختلفة وسيقطعون التواصل الإنساني بينهم. لجأوا إلى المدينة لتعذّر وجود فرص عمل في أماكن سكنهم الأصلية واستطاعوا تأمين فرص عمل متواضعة». يضيف: «حالياً هم «ضيعة» من ناحية علاقاتهم. تمكنوا على صعيد التنظيم المديني عبر سنوات طويلة من إقامة إطار مكاني توجد فيه أماكن عامة للقاء مثل الساحات والزواريب إضافة إلى جمالية وهرمية في البناء. إذاً هم في صدد تدمير طريقة حياة هؤلاء». معضلة أساسية تواجه الدولة بصفتها المسؤول الأول عن وضع سياسة إسكان مناسبة: من الجيد أن تضع الدولة مشروع «سكن اجتماعي» أو ما يسمّى بالسكن الرخيص لإيواء هؤلاء الناس لكن من الخطأ ألا تفكّر بالمصير الاجتماعي لهم عبر نقلهم إلى أماكن أخرى. كما أن إعادتهم إلى قراهم تتطلّب معالجة السبب الأساسي لنزوحهم المتمثّل بغياب فرص العمل وبالتالي يجب تغيير بنية النظام الاقتصادي بكامله وإعادة إحياء القطاع الزراعي والصناعي. لكن الطبقة السياسية الحالية لا تملك القدرة على الحل، ولا تريد حل هذا الوضع المدمّر في إطار المحافظة على مصالح «الطبقة البرجوازية السمسارة الحاكمة» في تعزيز الريع العقاري.