لنتخيل المشهد الآتي: كرة قدم في أوروبا من دون مسابقة دوري الأبطال. كرة قدم في أوروبا من دون مواجهة تجمع بين ريال مدريد الإسباني وبايرن ميونيخ الألماني، أو بين برشلونة الإسباني ويوفنتوس الإيطالي، أو بين تشلسي الإنكليزي وباريس سان جيرمان الفرنسي وغيرها من فرق الطليعة في هذه البلدان الرائدة كروياً. حتماً، سيكون المشهد باهتاً، وبلا نكهة.
الصورة هنا شبيهة تماماً بنهر الرين الذي يمر عبر سويسرا وليشتنشتاين والنمسا وفرنسا وألمانيا وهولندا في قلب «القارة العجوز» ليضخ الحياة في شرايينها. هكذا هو دوري الأبطال بالنسبة إلى أوروبا، إذ يجعل ملاعبها أكثر رونقاً ودفئاً وجمالاً بأمسياتها الساحرة، وسيئ الحظ من الأندية من لا يحظى في هذا العام أو ذاك بفرصة الاغتراف من مائه العذب.
القول بأن دوري أبطال أوروبا أصبح أكثر من بطولة، هذا واقع، ولا مبالغة في ذلك. فقد باتت «التشامبيونز ليغ» عالماً بحد ذاته يتخطى الإطار الرياضي الى الاجتماعي والاقتصادي. بات دوري الأبطال نسق حياة في أوروبا وواجهتها المشرقة بين قارات العالم.

وإذا كانت باريس لا تزال تتغنى بأنها مهد هذه البطولة، حيث ولدت في قلبها فكرة إنشائها من قِبَل صحافيين في صحيفة «ليكيب» الرياضية الشهيرة، وقد احتضنت أول نسخة منها في عام 1956 على ملعب «بارك دي برانس»، فإن مدن أوروبا قاطبة تتنافس في كل عام في ما بينها لتفوز بشرف احتضان المباراة النهائية للنسخة القادمة، أما المدينة التي تحظى بهذه الفرصة فتبدو كعروس عثرت على فارس أحلامها، فتبدأ منذ صفارة البداية تعد العدة لتبدو بأحلى صورة في المشهد الختامي، وكل أملها أن تتفوّق على نظيراتها من مدن القارة، وحتى في البلد الواحد كما الحال بين مدريد وبرشلونة، أو لندن ومانشستر، أو برلين وميونيخ، أو روما وميلانو.


باتت المنافسة في البطولة تتخطى، أو على الأقل تعادل، كأس العالم


الوصول إلى القمة في البطولة دونه صعوبات جمّة ويشبه تماماً المسير بين حقل من الألغام
مجرد احتضان هذه المدينة أو تلك لنهائي البطولة يعدّ نصراً مؤزراً، فكيف الحال إذاً بالمنافسة على أرض الملعب للوصول الى الكأس ذات الأذنين. هنا، في هذه الحال، تصبح المسألة مسألة وجود وريادة بالنسبة إلى مدن أوروبا. ولنأخذ مثلاً العاصمة الإسبانية مدريد في النسخة الأخيرة، فقد كان وصول قطبيها ريال وأتلتيكو الى المباراة النهائية للبطولة حدثاً جللاً تغنّت به مدريد طويلاً وفرحت له كثيراً. بدت وقتها مدريد بصورة نرجسية قلّ ما صادفتها في تاريخها حتى بعيداً عن الرياضة، وزاد من هذا المنسوب تحقيق أبيضها الملكي الريال الكأس العاشرة حتى أصبحت كلمة «لا ديسيما» أو «العاشرة» على ألسنة القاطنين خلف المحيط الأطلسي من مكسيكو إلى مونتيفيدو ولاباز، وصولاً الى ألاسكا.
وإذا كانت هذه هي الحال في مدريد في الموسم الماضي، فإن الصورة في العاصمة الإنكليزية لندن في سابقه كانت مناقضة تماماً، حيث عاشت مدينة الضباب كابوساً لم تألفه منذ الحرب العالمية الأولى عندما تبارى على ملعبها الأشهر، والذي لطالما تتغنى به، «ويمبلي»، فريقان ألمانيان في النهائي هما بايرن ميونيخ وبوروسيا دورتموند.
أمام هذا المشهد الذي لخّصته في النسختين الماضيتين تحديداً تصميمات غرافيكية للفرق الكبرى تظهر لاعبيها بأزياء مقاتلين في العصور الغابرة على أتمّ الاستعداد لخوض غمار أعتى المعارك، يصبح الوصول الى القمة دونه صعوبات جمّة ويشبه تماماً المسير بين حقل من الألغام للوصول الى بر الأمان، إذ إن شكل المنافسة ومنسوب القوة والمتعة والإثارة في هذه البطولة وصل الى مرحلة متقدمة جداً، حتى إنه بات يتخطى، أو على الأقل يعادل، بطولات كان مجرد التشبه بها ضرباً من ضروب الخيال، والمقصود هنا كأس العالم طبعاً.
النسخة الأخيرة من دوري الأبطال تعطي الإجابة الشافية حول هذه النقطة، إذ إن النجمين البرتغالي كريستيانو رونالدو، في صفوف ريال مدريد، والإسباني _ البرازيلي الأصل دييغو كوستا، في صفوف أتلتيكو، خضعا لعلاج مكثّف للإصابة من أجل اللحاق بالمباراة النهائية، غير آبهين بالمونديال الذي كان على الأبواب، وهذا كان له الأثر السلبي عليهما، كما كان واضحاً، في ملاعب البرازيل، فضلاً عن أن «التشامبيونز ليغ» أضحت صانعة النجوم وبوابتهم نحو الكرة الذهبية، حيث يكفي فقط التأكد من ذلك عبر تقصُّد اللاعبين انتقاء أندية مشاركة في هذه البطولة للانتقال إليها.
في الموسم الماضي، وعقب تتويجه بالكأس العاشرة مع ريال مدريد، قال سيرجيو راموس بالحرف الواحد: «الآن يمكن أن أرقد بسلام». جملة بالغة العبر، تختصر كُنه هذه البطولة، التي، لولاها، لكانت كرة أوروبا، على عكس نهر الرين، بلا حياة.