للمرة الأخيرة كمفتٍ للجمهورية، أقفل الشيخ محمد رشيد قباني ظهر أمس باب مكتبه خلفه، مغادراً دار الفتوى مع إتمامه عامه الثاني والسبعين. لم يخرج على وقع التصفيق ونثر الورود وانحناء النفوس إجلالاً لخمسة وعشرين عاماً أمضاها قائماً بأعمال الدار بعد اغتيال سلفه الشهيد حسن خالد، ثم مفتياً منتخباً منذ عام 1996. بهدوء وسرعة، مرت الساعات الأربع من يومه الأخير من ولايته. موظفو الدوائر أدوا له التحية واستمعوا إلى نصائحه بالحفاظ على أسس الدار.
خمسة أعضاء فقط من المجلس الشرعي الأعلى من أصل 32 عضواً، وقفوا إلى جانب رئيسه وهو يعلن حل المجلس "التزاماً ببنود المبادرة المصرية وتأميناً للمصلحة الإسلامية العليا وتسهيلاً لمهمات المفتي الجديد الشيخ عبد اللطيف دريان" كما جاء في بيان قباني. وبدل أن يمتلئ صدره بالأوسمة، قلد بنفسه وسام دار الفتوى لكل من نائب رئيس المجلس ماهر صقال، والمدير العام للأوقاف الشيخ هشام خليفة، ومدير العلاقات العامة الشيخ شادي المصري (قدم استقالته فور إعلان المبادرة المصرية)، ورئيس مجلس عمدة مؤسسات محمد خالد الاجتماعية نبيل بدر (بعد مرور شهرين فقط على تسلمه منصبه).

تعهد الحريري
بإسقاط كل الدعاوي ضد قباني

أحداث الساعات الأخيرة من ولاية قباني كانت من خارج الاتفاق الذي أنجز تسوية أزمة دار الفتوى بينه وبين تيار المستقبل بوساطة مصرية. سيناريو المشهد الأخير كان مكتوباً بطريقة أخرى تقضي بعملية تسليم وتسلم رسمية، إذ يحضر دريان إلى عائشة بكار ليتسلم الدار ومحتوياتها وملفاتها من قباني الذي جهّز له "ملفاً موثقاً يظهر حجم الإيرادات التي أدخلها إلى صندوق الدار من خلال العقارات التي اشتراها خلال عهده وزاد سعرها بشكل كبير" بحسب مصادر قريبة من قباني. لكنّ هناك "أطرافاً استغلت الأمر حتى اللحظات الأخيرة من ولاية قباني لكي تسلبه من درجاته" قالت المصادر، مشيرة إلى طلب رئيس الحكومة تمام سلام تأجيل العملية إلى ما بعد حفل تنصيب دريان المقرر مساء اليوم. بعد الحفل مباشرة أو صباح الأربعاء، سيحضر سلام مع دريان إلى الدار، حيث سيكون في استقبالهما قباني ومفتو المناطق وكبار الموظفين. فلماذا أسقط قباني من يده حتى صورة أمس الوداعية؟ "لم يعد قباني مهتماً بالشكليات في مقابل قلب صفحة الدار بإيجابياتها وسلبياتها من حياته"، قالت مصادر من داخل الدار. في هذا الإطار كشفت لـ"الأخبار" أن قباني تلقى أخيراً اتصالاً إيجابياً من الرئيس سعد الحريري "عبّر خلاله عن امتعاضه من أداء الرئيس فؤاد السنيورة في الملف وطلب منه مراجعته شخصياً عند الحاجة لأن لا أحد من آل الحريري موجود حالياً في لبنان". "البشارة" التي تلقاها قباني من الاتصال بحسب المصادر "تعهد الحريري إسقاط كل الدعاوى القضائية المرفوعة بحقه وحق نجله راغب وفريقهما في 17 أيلول الجاري بعد تسلم دريان". علماً بأن السنيورة كان قد نقل إلى عائشة بكار، عبر وسطاء، أن الدعاوى ستتحرك قريباً. اتصال الحريري لم يكن بعيداً عن الوسيط المصري القنصل في السفارة شريف البحراوي، الذي استأنف تحركاته لضمان احترام بنود المبادرة بعد ظهور إشارات سلبية من فريق السنيورة. تلك المخاوف خرج بها بعد لقائه بالفعاليات الوطنية السنية برئاسة الوزير السابق عبد الرحيم مراد، التي استعرضت عدم احترام الفريق الآخر للمبادرة. المصادر نقلت عن البحراوي "استحصاله على وعد من دريان بحل المجلس الشرعي برئاسة مسقاوي، أسوة بما فعله قباني، وإسقاط الدعاوى القضائية". علماً بأن إسقاطها يشمل إبطال القرارات التي أبطلت تعاميم قباني بتعيين بعض مفتي المناطق ومجالس الأوقاف، ما يعني أنه سيكون هناك مفتٍ منتهية ولايته ومفتٍ مكلف في أكثر من منطقة، منها صيدا، إلى حين إجراء انتخابات جديدة للمجلس الشرعي حتى نهاية العام الجاري.
خروج قباني الهادئ يقابله دخول مدوٍّ لدريان الذي يحظى باحتفال تنصيب هو الأول من نوعه في تاريخ دار الإفتاء. إلى مسجد محمد الأمين في وسط بيروت، دعت رئاسة الحكومة، أكثر من 1200 شخص يتقدمهم رؤساء الطوائف (سيكون لكل منهم كلمة). قباني اعتذر عن عدم الحضور تأسياً بإلغاء حفل المصالحة الذي وعد به، حيث كان من المقرر أن يزوره رؤساء الحكومات السابقون في الدار لوداعه. وفيما لن يحضر آل الحريري، ينتظر أن يغلب طابع 14 آذار وأجواء السنيورة على الحضور.