«الحقيقة الوحيدة هي أن تثور»(ماوتسي تونغ)

رغم أن نهج المقاومة والمواجهة كان حاضراً دائماً في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، باختلاف الأدوات والتكتيكات ومناقضاً لنهج التسوية، إلا أن المقاومة الفلسطينية تاريخيّاً تعاني من حالة الانكسار القائمة بين استعدادية المقاتل للتضحية، منطلقاً من وعيه النضالي والوطني من جهة، وبين جاهزية القيادة للمساومة والاستثمار السياسيين بالنتائج قبل نضوجها من جهة أخرى. لذا، فنحن أمام مقاومة مأزومة تعاني من خلل بنيوي، بغض النظر عن الأسباب الموضوعية أو الذاتية.

وقبل الخوض في تفاصيل هذه الإشكالية، إليكم هذه القصة من أدبيات المقاومة:
في إحدى الدورات التعبوية والتنظيمية لحركة فتح، التي كان يحاضر فيها عادةً أحد قادة الحركة، ثم يجيب عن أسئلة كوادر الدورة، كان المحاضر هو ياسر عرفات، وبعد محاضرته، سأله أحد الشباب: ما الضمانة بأنكم بعد كل هذه التضحيات والشهداء، لن تذهبوا إلى تسوية مع الأعداء؟ سحب أبو عمار مسدسه بهدوء، وأخرج منه رصاصة، وقدمها للسائل قائلاً: إذا فعلت ذلك، فأنت مكلف بقتلي بهذه الرصاصة.
المفارقة هي أن ياسر عرفات أعطاه الرصاصة من دون المسدس!
النقطة هنا هي ضرورة أن يعي المقاتل أن ما قدمه من تضحيات قد يُستثمر بشكل معاكس، لذا، يجب أن يظل التساؤل قائماً، رغم إيمانه بأن الحقيقة الوحيدة هي أن يثور. وهذا يعني أن على المقاتل أن يستمر، في لحظة السلام، في الدفاع والقتال من أجل حماية نضاله. الوعي مركب أساسي، ومن دونه سيكون النصر هزيمة، وكما يحمي الوعي الثائر من السقوط، فإنه يحمي المقاتل من الاستغلال. الوعي هو الذي ينير الطريق لمن لا يبخل بحياته للثورة. ومن هنا، تبرز أهمية العقيدة الثورية في الحركة الثورية. ربما لهذا أكد لينين أنّ الحركة الثورية لا بد لها من نظرية ثورية. والعقيدة الثورية هنا تعني الرؤية والاستراتيجية الواضحة والنهج العقلاني، ومن دونهما ستكون الثورة تجمعاً يتحرك بالعفوية وبالتجربة، وهذا ما افتقدته الثورة الفلسطينية.
الخلل الأساس أن قيادة المقاومة ربطت نفسها بالأحلاف الرسمية العربية


من الصعب إجراء مراجعة نقدية عاجلة لتجربة منظمة التحرير في الكفاح المسلح، لكن يمكن تلخيص أزمة المقاومة الفلسطينية في البنية الفكرية والتنظيمية والعسكرية لقيادة حركة فتح، وبالتالي، لم تكن فقط أزمة موضوعية لها علاقة بالظروف التاريخية التي تتعلق بانهيار الأنظمة العربية وبانحسار حركات التحرر العربية فحسب، بل أزمة ذاتية بامتياز، أساسها أن قيادة فتح لم تكن تعوّل على الكفاح المسلح بحد ذاته لتحقيق غاية التحرير، بل استخدمته لتحريك الجيوش العربية، وفق فكرة التوريط الواعي. ولعل ما أعطى المقاومة الفلسطينية شهرة عالية في هذه الفترة هو انهيار الأنظمة العربية وتوقفها عن القتال، فبدت البندقية الفلسطينية نموذجاً مغرياً، لأنها الوحيدة التي واصلت إطلاق النار. وهذا الذي منح المقاومة صورة رومانسية لدى الشعب العربي من جهة، كما أن الإعلام ضخمها من جهة ثانية.
لكن الخلل الأساس أن قيادة المقاومة، وبهدف المساومة، ربطت نفسها بالأحلاف الرسمية العربية، وابتعدت من حركة التحرر الوطني العربية. ولكن إلى أين انتهى إطلاق نار البندقية الفلسطينية، وأين انتهى هدف منظمة التحرير بالتحرير؟
يجادل يزيد صايغ في دراسته «الكفاح المسلح والبحث عن دولة»، أن المقاومة المسلحة تحولت إلى وسيلة لتحقيق سلطة حكم ذاتي وإقامة دولة في الضفة والقطاع، وهذا يعني التخلي عن الحقوق التاريخية. ولأن القيادة كانت غير جدية في المقاومة المسلحة، فقد كان يهيمن على العمل العسكري لمنظمة التحرير الطابع الرمزي والاستعراضي، إضافة إلى الذهنية العشائرية الانفعالية التي قادت الثورة، بسبب الافتقار للعقيدة الثورية، فالثورة لم تكن نتيجة عقيدة سياسية أو فلسفية أو اجتماعية، بل نتيجة إرادة عشوائية وإثبات وجود. لذا، تحول الكفاح المسلح والمقاتلون إلى أداة من أجل وصول القيادة لتسوية مع العدو. ورغم كل التضحيات والبطولات، عانت المقاومة الفلسطينية من غياب الاستراتيجية والإدارة العقلانية، وكانت تتسم بالعفوية والفوضى. لذا، تتحمل القيادة مسؤولية أخطاء تاريخية في مسيرة النضال، فلو أدار الفلسطينيون مقاومتهم بعقلانية، لكانت خسائرهم وتضحياتهم أقل، ولتحقق انتصارهم.
تجدر الإشارة إلى أن عبد الناصر قال: «هذه الثورة خلقت لتبقى». وياسر عرفات أضاف على ذلك: «ولتنتصر».
لعل المفصل في جاهزية القيادة للمساومة والتسوية هو قصر نفس النضال، حيث أدركت القيادة الفلسطينية أنها أضعف من مشروع تحرير فلسطين، واكتفت بالحكم الذاتي بدلاً من مشروع التحرر. بينما أدرك عبد الناصر بمقولته أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى نضال طويل الأمد، واستعداد جيد وحقيقي للقتال، لأن المعركة طويلة والصراع مديد، وهناك من يتآمر لإجهاضها سريعاً. وطالما انتقد عبد الناصر حين صرح بأنه غير جاهز بعد لقتال إسرائيل، واستغلت فتح ذلك بالمزاودة بأنهم أصحاب الرصاصة الأولى، في محاولة لاستدراج عبد الناصر للحرب، ولذلك، كان شعار فتح في تلك الفترة هو التوريط، وكان شعار القوميين العرب مقاومة ما فوق الصفر وما دون التوريط، ما قبل 1967.
هنا، من المهم الإشارة إلى أنه حتى في التدريبات العسكرية في معسكرات فتح، لم تكن هناك برنامج تأهيل تدريجي يراعي قدرات المتدربين، ويطورها خلال أسابيع الدورة. يقول نزيه أبو نضال في مذكراته التي حاوره فيها نزيه منى: «كانوا يجعلوننا في معسكرات التدريب نركض مسافات طويلة حتى تتورم أرجلنا ويتسلخ لحمنا. ولم يكونوا هم ومدربوهم مؤهلين أصلاً. كنا نقول لهم: ألا يوجد شيء اسمه التدرج بالتدريب؟ دعونا نركض أول يوم 3 كيلومترات، وفي اليوم الثاني 5 كيلومترات، حتى يملك جسدنا المقاومة المطلوبة ونستمر في التدريب. كان بعضنا يسقط، وفي اليوم التالي لا يستطيع أن يركض، لأن جلده تسلخ».
هناك خلل في كيفية إدارة الفلسطينيين لمقاومتهم المسلحة، وكان هناك غياب للاستراتيجيات العسكرية، وفرق واسع بين الطموحات وبين القدرات الفعلية. ولم يكن الانتصار عسكريّاً حقيقيّاً، بل إعلاميّاً استعراضيّاً مزيفاً. على سبيل المثال، يروي أبو نضال في مذكراته أن معركة عين البيضا كانت أكذوبة من التضخيم الإعلامي حول بطولات المقاتلين والإنجاز العسكري، بينما كانت مجزرة سببها إرسال شباب لتنفيذ عملية من دون استطلاع جدي للمكان ومن دون تخطيط جيد. ورغم الفشل العسكري بسبب غياب الخطط العسكرية التكتيكية للعمليات الفدائية، تصبح هذه المعركة وغيرها بطولية بإصدار ملصق كبير على شكل دائرة من صور الشهداء الذين سقطوا، وعبارة «ملحمة عين البيضا» كالشمس وسط الدائرة الأسماء. كان لا بد من شهداء حتى تكون هناك ثورة.
بسبب الخلل البنيوي في تركيبة فتح الفكرية والتنظيمية، يغدو من الصعب الحكم عليها أنها حركة ثورية. يمكن القول إن فتح مشروع ثورة، وما أعطاها الهالة المقدسة هو دماء الشهداء في معارك مع العدو، وليس هناك أكثر بؤساً من أن تصبح الثورة مشروع موت مجاني من دون أن يموت العدو.
ويمكن تلخيص جذور الأزمة ومكامن خلل المقاومة الفلسطينية في النقاط التالية:
منطق الأطروحة الفتحاوية باعتماد الخيار الفلسطيني القطري كبديل من الخيار القومي، واعتماد الفلسطينيين على أنفسهم في الكفاح المسلح كتكتيك لتوريط الجيوش العربية. والإشكالية أن المراهنة على توريط الشعوب العربية قاد إلى توريط الفلسطينيين أنفسهم، ما اضطرهم للبحث عن حلول سياسية للتسوية مع العدو. والمفارقة أن حدة الهزائم العسكرية أدت إلى التورط أكثر في القطرية، وفي المقابل، كان لانحسار المشروع القومي دور كبير في الأزمة. وقد تآكلت الثورة في اشتباكات أهلية وطائفية في الأردن ولبنان. وهناك افتقار للعمق العربي، إذ إن منطق الدولة مؤسس في فكر فتح على حسابات الوحدة العربية، فجوهر التناقض هو بين الأمة العربية والعدو الصهيوني، ومقاومة العدو يجب أن تكون بأداة قومية وليست قطرية، ومن يرفع الشعار القطري، من الصعب أن يكون حركة تحرر وطني ومشروع ثورة حقيقيّاً.
لم تكن هناك قناعة داخلية للقيادة الفلسطينية بمشروع التحرر، حيث أدركت أنها أضعف من مشروع تحرير فلسطين، وأن الحرب ضد إسرائيل غير ممكنة، وبهذا، استثمر حصار بيروت للتفاوض مع الأميركيين والإسرائيليين بناء على مأزق الكفاح المسلح والانتقال من بيروت إلى تونس، ما قاد إلى انفجار الانتفاضة الفلسطينية 1987. كما أن الصعود الشعبي في الانتفاضة، أي حلول النضال الجماهيري محل نضال النخبة ترافق مع تفكك الاتحاد السوفياتي كداعم للفلسطينيين على البعد العالمي. وهذا يعني أن الأزمة على الأبعاد العالمية والعربية والفلسطينية. وبما أنه لم يكن للقيادة موقف جذري ضد الرأسمالية أو انتماء للمشروع القومي، فقد قررت المساومة.
عجز الحركة الوطنية الفلسطينية عن التحوّل إلى جبهة وطنية تضم جميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية، ما أدى إلى التنافس المستمر بديلاً من التكامل المستمر، وذلك بسبب افتقاد وحدة الموقف الفكري والإيديولوجي والتصور السياسي، ما أدى إلى تناقض وخلاف وبلبلة في صفوف الحركة واتجاهات توزعت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. إضافة إلى ذلك، ذهبت مختلف القوى الفلسطينية إلى علاقات خاصة بين كل تنظيم ودولة عربية، حيث تجزأت طبقًا للتجزئة القطرية العربية، ودخلت المنظمات الفلسطينية اشتباكات المحاور السياسية العربية، ما زاد من عدم توحد الفلسطينيين في جبهة مشتركة. ولو كانت الحركة التنظيمية موحدة، لكانت أقوى في مواجهة الصهيونية وامتداداتها.
الدعم المالي لمنظمة التحرير وللمقاومة المسلحة لم يكن من الإمكانات الخاصة للفلسطينيين، بل كان خارجيّاً، ما أدخل المقاومة في دائرة التجاذبات والتوظيفات السياسية. وكان الدعم مقصوداً من اليمين العربي إلى اليمين الفلسطيني حتى تتحول المقاومة إلى مكاتب ومؤسسات إعلامية تنتصر بالإعلام لا بالسلاح. وأساس الدعم كان سعوديّاً خليجيّاً. أما ليبيا والعراق، فقد كان دعمهما من أجل استقطاب قيادات المنظمة، أي استثمار القضية الفلسطينية أمام الجماهير، إذ كانت منزلة أية دولة عربية تعتمد على سياساتها تجاه الحركة الفدائية الفلسطينية.
برجوازية العناصر القيادية المؤسسة لحركة فتح عكست نفسها على الثورة، فكانت حياة بعض القادة باذخة منفصلة عن أهداف المقاومة. كما أن مأسسة الثورة، والانتشار السريع للمكاتب والتوظيفات، لا يدل على ثقافة سياسية وطنية، بقدر ما يدل على الطموح الدولاني.
في التجربة العسكرية، لم يجر تطوير استراتيجية أو نظرية خاصة بالكفاح المسلح، ورغم أنه كان هناك حديث عن تجارب الثورات الصينية والكوبية والفيتنامية، إلا أن التنظيمات الفلسطينية لم تستوعب جيداً حرب العصابات وحرب الشعب، ولم تتأسس حركة مسلحة خاصة بالتجربة الفلسطينية. فمثلاً، تجربة حزب الله ميزتها في استيعاب دروس الثورات والربط مع خصوصية التجربة الميدانية من أجل تطوير المقاومة والإبداع فيها.
هذه الاختلالات حالت دون انتصار الثورة، وكانت مدريد وأوسلو لحظة انهيار للمشروع الوطني. ولكن داخل بنية أوسلو كان يوجد نقيضها المقاوم والمناقض لمبدأ التسوية السياسية، رغم اختلاف الأدوات بأشكال مقاومة مختلفة تعلو وتهبط، ابتداء بالانتفاضة الثانية، وصولاً إلى معركة غزة الأخيرة. الفارق أن المقاومة افتقدت الحالة التنظيمية، وأخذت طابعاً فرديّاً، إلا أن معركة غزة أعادتنا إلى الحالة الجمعية، حالة الكفاح المسلح المنظم.
هذا النقيض المقاوم لنهج التسوية بعد أوسلو أفرزه المجتمع الفلسطيني وليس النخبة، وكانت المقاومة هي حراك الشارع، وفي جوهرها صراع طبقي قومي بين قوى اجتماعية. قد تكون أشكال المقاومة المناقضة لأوسلو في ظاهرها قومية، بينما هي اعتراضات الجماهير الشعبية على نهج التسوية والاستسلام، فالشعب الفلسطيني له مطلب حقيقي بالحرية، وبالتالي هناك إرادة شعبية قادرة على المواجهة بغض النظر عن نماذج المقاومة. المهم أن مبدأ المواجهة والمقاومة كان حاضراً كنهج حياة، ورافضاً لنهج التسوية والتطبيع مع المشروع الصهيوني لإبقاء الحياة في الجسد الفلسطيني.
* كاتبة فلسطينية