في خطاب الانتصار الاخير بدا السيد حسن نصر الله كمن يلقي الحجة على كل مكونات المشرق دولاً وشعوباً وهيئات، لجهة ضرورة مواجهة الظاهرة الداعشية التكفيرية وخطرها على الجميع. إلا أن البارز في الخطاب كان استحضاره من القاموس السياسي لحزب الله عبارة «صراع الوجود» التي جسدت حالة الجدية في التعاطي مع المشروع التكفيري من جهة ولترتيب اولوية الصراع معه ليوازي مرتبة الصراع مع المشروع الصهيوني من جهة أخرى.
يمكن لنا «التأريخ» لبداية مسار تعاطي حزب الله مع التيار التكفيري من احداث 11 سبتمبر 2001 على اعتبار القاعدة هي العنوان الابرز لهذا التيار. لقد كان بارزاً في موقفه من هذه الاحداث التأخر النسبي لصدور بيانه (16 سبتمبر) وعدم انخراطه في «حفلة الاستنكار والتنديد» التي اجتاحت العالم ككل تقريباً («نجد أنفسنا معنيين بالدعوة إلى الوعي والحذر وإلى عدم الانسياق مع حالة الخوف والهلع التي أريد تعميمها على امتداد العالم بما يمنح الإدارة الأميركية تفويضاً مطلقاً بممارسة كل أشكال العدوان والإرهاب بدعوى رد العدوان والإرهاب»). فحزب الله لم يفته هنا في ذروة الاحداث ان يسجل موقفه الجذري من الطبيعة التسلطية لأميركا: «... أم أنها تريد أن تستغل هذه الحوادث المأساوية لبسط المزيد من هيمنتها وتسلطهاعلى العالم والإيغال أكثر في السياسات الظالمة التي تتبعها...».
تميّز تنظيم القاعدة بدءاً من هذه الاحداث وما تلاها الى غاية الفترة التي اعقبت احتلال العراق عام 2003 بخطاب سياسي يتوج التنظيم نفسه من خلاله كحركة أممية هدفها مواجهة الهيمنة الأميركية الداعمة لإسرائيل، كما ورد في خطاب لابن لادن: «لن تحلم أميركا بالأمن قبل ان نعيشه واقعاً في فلسطين...». ولم يتوان الظواهري في الحديث عن هزيمة أميركا في لبنان في معرض ذكره لهزائم الأميركيين على يد «ابناء الامة». تميزت هذه المرحلة في مسار النظرة المتبادلة بين حزب الله والقاعدة بالمهادنة على الرغم من انتماء القاعدة لمرجعية فقهية اقصائية ورافضة للاختلاف، الى غاية الاحداث التي اعقبت احتلال العراق في 2003 والتي سجلت ظهور حالة مستجدة تقف على «يمين» قيادات الصف الاول للقاعدة فرضت اجندتها على القاعدة الام واستجرت اعترافاً بها، بقوة عملياتها الاستعراضية وتوغلها في البيئة السنية العراقية.
حالة الزرقاوي
هي التي «أقنعت»
القاعدة الأم باستراتيجيتها في العراق
قاد أبو مصعب الزرقاوي هذه «الحالة التكفيرية» بخطاب متطرّف اكثر وفاء للأدبيات السلفية الوهابية وما تبعه من اداء اجرامي اعطى الاولوية لاستهداف الوجود الشيعي، كان ابرزها استهداف باقر الحكيم في مسجد الامام علي في النجف في 29 آب 2003. نفت القاعدة الام ببيان رسمي تلاه من اسمى نفسه الناطق باسم جبهات القتال في افغانستان، ابو عبد الرحمان النجدي، وبثه المرصد الاعلامي الاسلامي بتاريخ 8 أيلول 2003، تورطها في عملية الاغتيال بعبارات اظهرت البون الشاسع بين استراتيجية القاعدة الام آنذاك وتلك التي تبناها الزرقاوي
(«... ومساجد آل نبينا محمد يفجرها الأعداء لينجح مكرهم ولخدمة مخططاتهم... ونحن ننفي بقوة أني كون للقاعدة أي يد في التفجير الذي قتل محمد باقر الحكيم وانتهك حرمة بيت من بيوت الله وقتل الأبرياء...»).
ما تحدث عنه التنظيم الأم نسفه الزرقاوي في شريط بثّ في 5 نيسان 2004 بعبارة تبنّي ضمنية: «ولقد اكرمنا الله في مضى بقتل الحكيم». فبالنسبة للزرقاوي الشيعة يتآمرون «ليقيموا دولة الرفض ممتدة من إيران مروراً بالعراق وسوريا الباطنية ولبنان حزب اللات ومملكات الخليج الكرتونية التي تمتلئ ارضها بألغام الرفض وبؤر التشيع»، والذي لم يكن تنظيمه «التوحيد والجهاد» قد بايع القاعدة بعد، ولم يتم ذلك إلا في 17 تشرين الأول 2004 ببيان موقع من ابو ميسرة العراقي، الذي تحدث فيه عن «اتصالات بين ابو مصعب الزرقاوي مع الاخوة في القاعدة... تفهم اخواننا في القاعدة لاستراتيجية التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين». ما لفت الانتباه هو ان حالة الزرقاوي رغم مبايعتها للقاعدة الام فإنها هي من «اقنعت» القاعدة الام باستراتيجيتها في العراق التي تضع استهداف الشيعة وإيران وحزب الله كأولوية لها، شرحها الزرقاوي في اكثر من مناسبة كشريط «هل اتاك حديث الرافضة». والحوار الذي اجراه معه ابو اليمان البغدادي والصادر عن دار الفرقان. لقد مثلت مبايعة الزرقاوي للقاعدة وتأكيدها لثبات رؤيتها لحزب الله باعتباره عدواً، إنهاء لحالة المهادنة التي طبعت نظرة قياديي القاعدة الأم اتجاه إيران أو حزب الله والتي عبّر عنها الظواهري في رسالته للزرقاوي المسربة من الادارة الاميركية (مدير مكتب الامن القومي جون نيغروبونتي) بتاريخ 13 تشرين الأول 2005 والتي انتقده فيها ضمنياً لاستهدافه «لعوام الشيعة ومساجدهم»، وإن كان يقر بعداء راسخ للشيعة الا انه يرى تأجيل الصراع معهم ويتحدث عما يشبه مهادنة إيران - وضمنياً حزب الله. لقد اتضح أن منهج الزرقاوي الصدامي مع الشيعة وحزب الله قد انتصر على رؤية القاعدة الام وليس أدل على ذلك من الكتيب الذي الّفه «عطية الله»، أحد منظري القاعدة بعنوان «حزب الله اللبناني والقضية الفلسطينية رؤية كاشفة»، والصادر عن مؤسسة السحاب الاعلامية التابعة للقاعدة في 2008. لقد ادرك السيد نصر الله مبكراً خطورة المد التكفيري في العراق على المنطقة ككل، ففي خطاب تأبين باقر الحكيم في 1 أيول 2003 قال: «الأمل الوحيد لسيطرة أميركا على المنطقة لعقود ولأجيال هو ضرب الأمة في مسألة الشيعة والسنة.
هذا هو أخطر تهديد يواجه الأمة من قبل أميركا، ووحدة الشيعة والسنة هي أكبر تهديد يواجه المشروع الأميركي – الصهيوني الجديد في المنطقة...». ولا شك ان الحزب كان يعي طبيعة تكوين القاعدة كتنظيم له قابلية للاختراق من قبل اكثر من جهاز استخبارات. وهذا ما اشار له السيد في الخطاب نفسه، الا ان التحدي الاكبر في مسار مواجهة هذا الخطر ترسخ مع تصاعد الاحداث في سوريا وتجسدت فيه «الطبيعة الوظيفية» التي ارتضاها التيار التكفيري لنفسه في سياق الحرب لإسقاط سوريا كرائده للنسق الاستقلالي والتحرري في المنطقة ودخول حزب الله الحرب من موقع المدافع على مركز المقاومة في المنطقة. كان على السيد قبل الدخول في المواجهة المباشرة مع المشروع التكفيري بإطاره البارز القاعدة. تحذيره في حفل التخرج الجامعي السنوي في 16 كانون الأول 2012 من «أن الاميركيين والاوروبيين وبعض الحكومات في العالم العربي والاسلامي نصبت لكم كميناً في سوريا وفتحت لكم ساحة لتأتوا إليها من كل العالم... حتى يقتل بعضكم بعضاً في سوريا وانتم وقعتم في هذا الكمين». سبق ذلك الخطاب ببضع أشهر اعلان حزب الله الرسمي دخوله حلبة الصراع المباشر مع التكفيريين من خلال معركة القصير التي شكّلت مفصلاً مهماً في سياق تطور الحرب في سوريا في منحى تصاعدي لمصلحة الدولة في سوريا. «داعش» اليوم كوريث «للحالة الزرقاوية» في العراق تمدّد وصنع لنفسه «انتصارات» على وقع استراتيجية الرعب التي اعتمدها، فرض على حزب الله واقعاً جديداً قوامه الانخراط الحاسم في معركة المشرق الكبرى، للحفاظ على كينونة هذه المنطقة بكل تنوعاتها.
وكان لافتاً أن كتيّب «المذكرة الاستراتيجية» لأحد منظري القاعدة (عبد الله بن محمد) والصادر عن مؤسسة الماسدة الاعلامية اظهر ان «العقل الاستراتيجي» للقاعدة لم يتوقع دوراً حاسماً لحزب الله في الشام كقوة قررت ان تدخل معه في صراع وجودي. وفي زمن انتصاري خطه حزب الله منذ 32 سنة، لن تكون نتيجة هذا الصراع سوى اقتلاع هذا المشروع من المشرق.
* كاتب جزائري