سيتمكن الأهالي، بعد طول انتظار، من الاطلاع على «أوراق» يُفترض ان تسرد لهم كيف فُقد أحباؤهم. ان تُخبرهم بعض القصص «المبتورة» عن جرائم خطف وقتل وتعذيب «معفي عنها». تخبرهم عن زعماء قرروا العفو عن انفسهم، لانهم لم يجرّبوا هذا النوع من الفقدان، ولأنهم قاتلوا بالآخرين وقتلوهم ومضوا يمارسون سلطتهم على من بقي منهم حيّا يُرزق.
«صندوقة» يشبه «صندوقة باندورا وشياطينها»، تسلّمه المحامي نزار صاغية السبت الماضي، نيابة عن اسر المخطوفين والمفقودين والمخفيين قسرا. تطلب الامر نضالات مضنية وعذابات الامهات والاخوات والاخوة والابناء والبنات... واستجداء «المعرفة»، لمجرد معرفة ماذا حلّ بالاف الناس الذين «اختفوا» في دورة الجنون المتواصلة.
سيعكف المحامون والمتخصصون على دراسة محتويات «الصندوقة»، ليتقرر في ضوء ذلك وجهة التحرّك المقبل، الا ان «التوقعات» متواضعة جدا، او هكذا اوحى النائب غسان مخيبر، الذي قال لـ»الاخبار» إن المعلومات التي يتضمنها الملف جزئية وغير مكتملة. طبعا، لم يكن أحد يتوقع ان تكون هذه السلطة قد انجزت فروضها وأنهت واجباتها، فاللجان التي شكّلتها لتقصي مصير المفقودين لم يكن هدفها الوصول الى «الحقيقة» لاستكمال «المصالحة»، بل كان هدفها امتصاص غضب «الاهالي» واستهلاك الوقت، على قاعدة ان «الوقت كفيل بترسيخ النسيان».

تكريس حق المعرفة


تسليم ملف تحقيقات «اللجنة الرسمية للاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين في لبنان»، يعدّ خطوة مهمة على مسار جهدت القوى السياسية المتعاقبة في العمل على تجنبّه. الا ان تصويره «كإنجاز»، لا يتوافق مع النظرة الى مسؤوليات الدولة وواجباتها. تطلب انجاز مثل هذه الخطوة «الشكلية» ضغوطا هائلة في الشارع وفي القضاء وفي الاتصالات السياسية، فيما يُفترض بالدولة ان تكون مجبرة على احترام مواطنيها ومعالجة معاناتهم والحفاظ على صدقية مؤسساتها الدستورية. كل ما حصل في الفترة السابقة لا يتوافق مع حق أهالي المفقودين في تحصيل جواب حاسم يشفي «غليلهم» المتقد منذ اكثر من ثلاثين عاما.
مخيبر: تسليم
الملف وسيلة
لا الهدف


“هي المرة النادرة التي نأخذ فيها تعهّدا ويجري الإيفاء به»، هكذا عبّرت رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» وداد الحلواني عن رأيها بتسليم الملف. وعلى الرغم من أنها لا ترى أن تسليم الملف يعد «انتصارا»، تؤكد أنه «محطة أساسية لانتزاع حق المعرفة والعمل على تكريسه».
لم تخف الحلواني فرحتها وهي تعانق «الصندوقة» الذي «يحوي حقائق عن أحبائها». تلفت الى ضرورة التريّث في اعلان أي موقف قبل دراسة الملف ومناقشته، «ذلك أن القضية حساسة ودقيقة تستلزم العمل معها بدقة وحذر».
“أما كيف نعلّق على الملف؟ فذلك يكون عبر تجديدنا المطالبة باعتماد الآليات التنفيذية التي تتمثل في مشروع القانون المقدم الى مجلس النواب الرامي الى حل قضية المفقودين والمخفيين قسراً، ومشروع اقتراح في مجلس الوزراء يتمثّل في تولي «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» جمع وحفظ العينات الجينية لعائلات المفقودين». من هنا كان تأكيد الحلواني على استمرار تحرّك «دوام أهالي المفقودين» امام مقر مجلس الوزراء، الخميس المقبل، وذلك لمتابعة الملف بهدف الوصول الى خواتيمه. سيُعقد خلال «الدوام» مؤتمر صحافي يعلن أهالي المفقودين في خلاله موقفهم من تسليم «الصندوقة» ومحتوياته. ترى الحلواني في هذا الإطار، أنه كما يحق لأهالي المفقودين معرفة مصائر أحبائهم، يحق للرأي العام أن يطلّع على مضمون الملف فـهو «نتاج ما قامت به الدولة خلال 24 سنة»، وفق ما قال محامي «لجنة اهالي المفقودين» وجمعية «سوليد» نزار صاغية.
صاغية، الذي تسلّم الصندوقة من مجلس الوزراء، لفت الى ضرورة تفريغ مواد الملف ودراستها قبل إعطاء أي رأي فيه.
الجدير بالاشارة ان الحلواني كانت قد تبلغت من رئيسة مصلحة الديوان في مجلس الوزراء ميرفت عيتاني انها لا تملك الصلاحيات لاستقبال أي جهة غير المحامي من اجل تسليم محتويات الملف.
قرار تسليم الملف الذي اعلنه الرئيس تمام سلام، يمثل انعطافة جديدة في آلية تعاطي مجلس الوزراء مع القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة، الذي يكرس، للمرة الأولى، الحق في الوصول الى المعلومات على نحو عام، وحق ذوي المفقودين في معرفة مصير أحبائهم. وقد قضى هذا الحكم بإبطال القرار الضمني الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء برفض تسليم ملف التحقيقات التي أجرتها لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين لذوي المفقودين. وقد توصل المجلس الى هذه النتيجة بعدما أعلن حقاً أساسياً جديداً هو حق ذوي المفقودين، على أساس أن هذا الحق حق طبيعي متفرع عن حقوق الإنسان في الحياة وفي الحياة الكريمة وفي مدفن لائق، وعن حق العائلة في احترام الأسس العائلية وجمع شملها، وعن حق الطفل في الرعاية الأسرية والعاطفية والحياة المستقرة، وهي حقوق كرستها المواثيق والشرائع الدولية التي انضم إليها لبنان.

معلومات جزئية

يشير النائب غسان مخيبر الى ضرورة الالتفات الى أن قرار تسليم الملف لم يأت على نحو بديهي، بل سبقته ممانعة جدية من قبل الدولة في تسليمه (هيئة القضايا في وزارة العدل تقدمت بتاريخ 6 أيار 2014 الى مجلس الشورى لإعادة المحاكمة في قراره الملزم تسليم الملف لاهالي المفقودين، مرفقا بطلب وقف التنفيذ، بحجة أن تنفيذ القرار يمثل «خطرا» على السلم الأهلي، لكن المجلس ردّ الطلب وأكد ضرورة تسليم الملف). ويلفت الى ضرورة النظر الى الجهود المتواصلة التي رافقت قرار التسليم.
انطلاقا من هذا «الاعتبار»، يجد مخيبر أن هذا القرار بمثابة «واجب» قامت به الدولة «متأخرة» وهو لازم لها لكونه يأتي تنفيذًا لقرار مجلس شورى الدولة. وإذ يرحّب مخيبر بقرار تسليم الملف لأنه يأتي في سياق التأكيد على حق أساسي، وهو حق المعرفة، يؤكد أن «الهدف ليس تسلّم الملف بل هو الوسيلة لتحقيق الهدف المرتجى» المتمثل في حل مسألة المفقودين والمخطوفين.
وعلى الرغم من أن مخيبر لم يطلع على نحو مفصّل على الملف، وفق ما يقول، يؤكد أن المعلومات التي يتضمنها الملف ليست كافية، بل جزئية، ذلك أن الملف يشمل عمل اللجنة الأولى التي تشكّلت عام 2000، «وهي التي قامت بعمل غير مكتمل» وفق ما يرى مخيبر، لافتا الى «ان الملف مثلا لا يتضمن المعلومات عن المفقودين والمخطوفين في السجون السورية”.
ويضيف: ”الهيئات المعنية لم تقم بعمل مهني وكامل وبالتالي يجب ان يكون هناك مؤسسات مستقلة وتتمتع بصلاحيات تخولها القيام بهذا العمل”. من هنا يؤكد مخيبر ضرورة اعتماد مشروع القانون المقدم من اجل انشاء هيئة عامة وطنية لحل قضية المفقودين، لافتا الى ضرورة استكمال هذه الخطوات من أجل تحقيق الهدف المرتجى، والمتمثل في الحل المتكامل للقضية، مؤكدا ان تسليم الملف هو الوسيلة التي تطلبت معركة «وهو ما يثبت حساسية الملف لدى بعض السياسيين».



تعهَّدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة على أعلى المستويات النظر في قضية المفقودين، وتقديم الأجوبة والدعم إلى عائلاتهم، وأُنشئت ثلاث لجان مختلفة لمعالجة الموضوع. اللجنة الأولى: «لجنة التحقيق الرسمية للتقصي عن مصير المخطوفين والمفقودين» في كانون الثاني 2000. وأنشئت اللجنة الثانية لتلقي شكاوى أهالي المخفيين بمرسوم وزاري عام 2001، ومُدِّدت مهمتها مرتين وانتهت في شباط 2002. وأنشئت اللجنة الثالثة «اللجنة اللبنانية السورية المشتركة» في آب 2005 ، ولا تزال قائمة حتى الآن، مع أنها لم تعقد أي اجتماع منذ تموز 2010.
ووفقاً لدراسة اعدتها اللجنة الدولية للصليب الاحمر يعتقد 77 % من عائلات المفقودين، أن القريب المفقود لا يزال حياً، أو هم على الأقل غير متأكدين من مصيره. ومع أنهم يدركون أن احتمالات أن يكون قد لقي حتفه كبيرة، لم يفقدوا الأمل في رؤيته حياً يرزق.