تلحّ التحليلات الصحافية حول الصعود العاصف في قوة الحوثيين وانتصار الثورة اليمنية، على دلالاتهما الجيوسياسية الإقليمية؛ ومنها توسّع النفوذ الإيراني في اليمن على حساب السعودية، بما يدفع نحو تفاهمات واقعية بين طهران والرياض، خصوصاً أن الحوثيين كسروا مفاصل قوة الاخوان المسلمين، بما يلائم السعودية... الخ. لكن ما نراه الأهم، هو النموذج السياسي الفريد الذي قدّمه أنصار الله، بصفتهم قادة المرحلة الثانية للثورة اليمنية.
فاجأ زعيم أنصار الله في اليمن، عبدالملك الحوثي الوعي العربي المأزوم بالاحتراب حتى الموت، بالتعفّف عن السلطة. بالنسبة إليه: الثورة اليمنية مستمرة. وهو يريد أن يبقى في صفوفها؛ خطابه الموجه إلى كل اليمنيين، لم يستثن الخصم الإخوانيّ اللدود المهزوم، «التجمع اليمني للإصلاح».
يقترح خطاب الحوثي، من حيث الجوهر، صيغة للتحالف الوطني والديموقراطية التوافقية نحو إعادة بناء الدولة التي نخرها الفساد والإفقار والتخلّف والإرهاب والانقسامات. وهذه الصيغة التي تؤكد على رفض التدخلات الأجنبية، وتبرأ منها، وتؤكد على السيادة والاستقلال، وعلى وحدة الشعب، وصيانة القوات المسلحة ومؤسسات الدولة، وعدم المساس بها تحت أي مبرر، ومكافحة الإرهاب، والشراكة الوطنية، ومعالجة المشكلات الاقتصادية والجهوية بالتفاهم، هذه الصيغة بالذات تمثل النموذج السياسي المطابق للمتطلبات التاريخية ــــ الاجتماعية للتغيير الذي بات ضرورة حياة أو موت في البلدان العربية.
البلدان العربية، بما فيها مصر، لم تنجح في انجاز عملية سياسية ــــ تنموية تؤدي إلى الاندماج الوطني، وإعادة تأسيس الدولة على أساس المواطنة، وفي غياب الصناعة والزراعة والهياكل الانتاجية، لم تتبلور فيها فئات اجتماعية مستقرة ذات وعي سياسي وطني. ووجود هذه الفئات هو الأساس للثورة الشعبية التي ترتكز على تحالف العمال والفلاحين والمثقفين، أو للتحول الديموقراطي الليبرالي غير الممكن من دون قاعدة اجتماعية واسعة من الفئات الوسطى.
على خلفية الفشل التنموي، وسيطرة أيديولوجية السوق الرأسمالية المعولمة، المقترنة بالريعية، وتجذّر مؤسسات الفساد والقمع، جرى تهميش القسم الرئيسي من الجماهير العربية، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وتحوّلت إلى الانكفاء نحو الحصون الطائفية والقبلية والجهوية. لكن أكثر ما أدى إلى انزلاق الدول العربية إلى الفوضى والتطرف الديني والقبلي والجهوي والانقسامات الطولية، هو الفشل التاريخي لحركة التنوير العربية في انجاز الثورة الثقافية اللازمة للاندماج في الحداثة السياسية.
أمام هذا الواقع، وجد الإخوان المسلمون وتفرعاتهم الفرصة للانقضاض على الحكم في أكثر من بلد عربي في مشروع مضمونه إدارة التخلف والفقر والتهميش، تحت يافطة دينية، وبالتحالف مع الإمبريالية الأميركية، وعلى أساس استمرار الاندماج التبعي الكمبرادوري في العولمة الرأسمالية. ولقد اتضح أن هذا الحل قد فشل، ليفتح الباب على مصراعيه لموجة التنظيمات التكفيرية الإرهابية العدمية الهادفة إلى بناء دكتاتوريات فاشية دينية.
من جهتهم، حاول الليبراليون ــــ ومعظمهم من اليساريين والقوميين السابقين ــــ تقديم نموذج مبسط لانتقال ديموقراطي ليبرالي، على الرغم من انعدام الأرضية الاقتصادية ــــ الاجتماعية ــــ الثقافية اللازمة لقيامه.
الحوثيون المنتصرون في اليمن، أظهروا فهماً عميقاً للمتطلبات التاريخية للنهوض اليمني؛ لم يفرضوا سلطتهم، واعتبروا انتصارهم انتصاراً لكل الشعب، ولم يقصوا أحداً، ولم يتخذوا موقفاً متشنجاً من اي قضية، ودعوا إلى وحدة اليمنيين والتسامح؛ وهو ما يجعل قولنا زائداً أنه لم تجر استباحة لمجموعات سكّانية، ولا عمليات تطهير، ولا مذابح، ولا أعمال انتقامية لدى سيطرة قوات الحوثيين على صنعاء.
الثورة اليمنية المستمرة نجحت في ما سماه الحوثي بـ «إزالة عقبة كبيرة كانت تحول دون بناء دولة عادلة، والمتمثلة في أكبر وأخطر قوى النفود المتغلغلة في مؤسسات الدولة بقيادة علي محسن الأحمر الذي كان يسعى لفرض إرادته فوق إرادة الشعب، ويتحالف مع بعض القوى الخارجية بغية اخضاع الشعب اليمني». وإزالة هذه العقبة لم تصطدم بالجار السعودي، بعدما كان الأحمر قد تحوّل إلى الرعاية القَطرية. ودعا الحوثي إلى حل القضية الجنوبية، وأنصاف اليمنيين الجنوبيين، مؤكداً وقوف الحوثيين مع مواطنيهم هؤلاء حتى تحصيل حقوقهم. وقد فرض الحوثيون مشاركة ممثّلين عن الحراك الجنوبي في هيئة الاستشارات الرئاسية للمشاركة في اتخاذ القرار الوطني.
الثورة اليمنية، رغم انتصارها الحالي، لا تزال في بداية الطرق؛ ويلح الحوثي على أنها ستظل مستمرة. فبالإضافة إلى دور الجماهير الثائرة في فرض احترام الشراكة الوطنية، هناك تحدي مواجهة الإرهاب، وتفكيك شبكات الفساد والنفوذ، وإقامة «دولة عادلة تحقق الازدهار والأمن للشعب اليمني».