تصلح فرنسا، بالنسبة إلينا نحن اللبنانيين اليوم، نموذجاً لأخذ بعض العبر وتعلّم بعض الأمثولات، في مواجهة الإرهاب كوطن، وفي مقاربة مفهومنا المعلوك عن الكرامة كشعب. تصلح فرنسا نموذجاً، لأنها تملك سلطة أضعف من سلطتنا، ورئيساً أوهى شعبية من أي نائب ممدّد لنفسه، وركوداً اقتصادياً أقسى من سلسلة قيودنا، ومستوى تربوياً جعلها تحمل الرقم القياسي أوروبياً في عدد التلامذة الراسبين، مقارنة بنجاح المئة في المئة عندنا.
ولأنها تملك مجتمعاً موازياً في انقساماته نسبياً لانقساماتنا، وتاريخاً مليئاً بالأساطير وواقعاً متخماً بالمآزق والأزمات... لكل هذا تستحق باريس الآن أن تقدم لنا درساً عملياً، في كيف تكون لشعب كرامة في مواجهة إرهابيين.
قبل يومين عاشت فرنسا كلها حالة ذعر واستنفار وطني عام، فضلاً عن إرهاصات أزمة دبلوماسية كبيرة بين باريس وأنقره.
السبب أن تركيا كانت قد أوقفت ثلاثة جهاديين من أصل فرنسي، دخلوا إليها من سوريا، بعدما أمضوا هناك نحو عامين يقاتلون ضمن مجموعات الجهاديين الأصوليين.
اتصلت السلطات التركية بمثيلتها الفرنسية، ونسقت معها عملية ترحيل الثلاثة إلى باريس يوم الثلثاء.
انتظرت السلطات الفرنسية وصول هؤلاء إلى مطار أورلي لتوقيفهم. لكنهم لم يظهروا. بعد ساعات، أبلغ الأتراك الفرنسيين أنهم وضعوا الثلاثة على طائرة اخرى متوجهة إلى مرسيليا.
وصلوا حيث لم يكن ينتظرهم أحد. فدخلوا البلاد، كمشاريع إرهابيين، انتشر الخبر فقامت القيامة. كل فرنسا كانت في حالة استنفار. الحكومة والسلطات الأمنية والعسكرية، القضاء، الإعلام، صانعو الرأي العام... كلهم هبّوا صفاً واحداً: ثمة إرهابيون محتملون بيننا، والمسؤولية تقع على الأتراك. في الوقائع العملية أن الثلاثة عادوا فسلّموا أنفسهم بعد 24 ساعة إلى شرطة مرسيليا.
لكن الدرس الأول هو كيف يستنفر وطن بكامله، بحثاً عن مشتبه به، تنقيباً عن احتمال وجود «جهادي» واحد. كيف تتحد كل السلطات على كل المستويات، كيف تعبّأ كل الطاقات لتوجيه الاتهام نحو وجهته الصحيحة: تركيا مسؤولة.
الأتراك يتحملون مسؤولية التقصير، إن لم يكن أكثر. لم يقف نائب تافه ليهاجم الجيش الفرنسي، ولم يتنطح سياسي انتهازي ليصنف الإرهاب الأصولي موازياً لجبهة وطنية أو لحزب فرنسي. ولم يتشدّق إعلام نظامي ولا فوضى تواصل اجتماعي حول بيئة حاضنة أو اسباب عميقة ــــ ذريعة لفهم الإرهاب والإرهابيين. كل فرنسا عُبّئت لإيجاد المشتبه بهم، وكل فرنسا حملت المسؤولية لجهة خارجية كادت أن تهدد الداخل الفرنسي.
قبل تلك الواقعة، كانت ثمة عبرة فرنسية أخرى. خطفت مجموعة إرهابية أصولية مواطناً فرنسياً في الجزائر، وهدّدت بقتله قبل منتصف ليل أمس، إذا لم تنسحب فرنسا من التحالف الغربي ضد دولة الإرهاب الداعشية. لحظات قليلة أعقبت بث شريط الفيديو المسجل للرهينة الفرنسية، كانت كافية لتوحيد جمهورية ديغول.
كشخص واحد وقف الفرنسيون. لا للتفاوض مع الإرهابيين، لا للخضوع لابتزاز الأصوليين، لا للإذعان لشروط المجرمين.
من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من قلب الموالاة المتداعية إلى صلب المعارضة المتنامية، من كل أطراف الخارطة السداسية، كان صوت واحد: كرامة فرنسا لا تتعايش مع ذل الخضوع لخاطف. لم تقطع طرق بلافتات مطبوعة سلفاً، ولم تصوّر كاميرات نهمة «غضب الأهالي» الغددي الغرائزي. لم يسأل أي مفجوع مدفوع عما لو كان الأسير ابن إيمانويل فالز أو صديقة هولاند السرية. ولم يردّ عليه أي مدافع مدع عما لو كان المجرمون المطلوب تحريرهم ذابحي ابنه بالأمس، أو ما إذا سيذبحونه هو غداً. سقطت كل الصغائر.
سكتت كل الغرائز. خمدت كل تلفيقات الرأي العام المفبرك وعفوية المشاعر المعلّبة. في قرية الفرنسي الرهينة، سان مارتين فيزوبي، نزل أهله والناس إلى الشارع، بهدوء، بأسى، بكبر ورفعة ووقفة، ضد الجلاد لا ضد الضحية. في مواجهة المجرم لا في مواجهة المستهدف. رفضاً لإرهاب الأصوليين، لا تحريضاً ضد شعبهم.
بكلمات قليلة قالوا كل الحقيقة: إذا استسلمنا الآن، هزمنا في كل آن.
صرنا كلنا مشاريع أسرى ومخطوفين وقتلى وذبائح في كل مكان من العالم وفي كل لحظة. كرامة الوطن ومصلحة كل مواطن تقضيان بالصبر، لا بالانتحار باسم الاستسلام والإذعان.
درسان من باريس لبيروت. بيروت التي دخلها عشرات آلاف الإرهابيين، وهي لم تعلم بعد. بيروت التي أرسلت إليها دول الجوار والإقليم أفواج الإرهابيين، بلا سمات دخول وبلا نيات خروج، وهي لا تزال تحني رأسها أمام مصادر الإرهاب، شاكرة منوّهة مثمّنة مكرماتها مثنية على تعاونها مقدرة وساطاتها، وتكاد تكون لاثمة أيدي مسمميها. بيروت التي خرج أحد مجرميها من سجونها في سيارات مسؤوليها، وصار اليوم نجماً إرهابياً، ولم تهتز. لم يخرج بعد من يعتذر عن جريمة تحريره. بيروت التي خطف كل وطنها إلى كهف في عرسال، وثمة من يفجر لينضم كل الوطن الباقي إلى الكهف. قلتم كرامة؟ عندما تكون الشعوب والأوطان هي المعنية، تصير كرامة الحياة من كرامة الموت.