يكاد لا احد من السياسيين يلتقي سفراء دول نافذة ومؤثرة يسمعهم الا ويسهبون في الكلام عن الدور الذي يضطلع به التحالف الدولي في حربه على «الدولة الاسلامية»، من غير ان يكونوا قاطعين في القول ان الحملات العسكرية الجوية ستفضي في مدى قريب الى تدميرها، واعادة المنطقة الى ما قبل اعلان دولة الخلافة.
ما يروونه ان واشنطن لا تخطط لاستراتيجيا تغيّر وجه المنطقة، بل حصراً لقيادة تقويض تنظيم «داعش». يتجاهلون امام محدّثيهم اللبنانيين الخوض في الاستحقاق الرئاسي، ويدلّون بأصابعهم على ما يجري في العراق اولا، ثم في اليمن، ثم في سوريا، مفتاح العلاقات الايرانية ـ السعودية. من ثم يأتي الكلام على ما ينبغي لبنان انتظاره.
في موازاة ضرب «داعش» في العراق وسوريا، تختبر طهران والرياض حوارهما المشوب بالغموض، وتحاولان التثبت من الصدقية والثقة اللتين تحتاجان اليهما في هذا الحوار، وقد تستغرقان وقتا طويلا قبل بت الملفات تلك. واولها بلا منازع العراق في ظل «داعش» او من دونه.
للمرة الثانية، على مرّ عقود ازمات وطنية عرفها لبنان اختلطت بتداعيات الاضطرابات الاقليمية عليه، تتوقف عقارب ساعته عند العراق. في الفصل الاخير من «ثورة 1958» عجّل انقلاب عسكري على الملكية هناك في 14 تموز في انزال عسكري اميركي على الشاطىء اللبناني، فاستعجل بدوره بعد اسبوعين انتخاب رئيس الجمهورية في 31 تموز.
لم يكن ثمة شغور في الرئاسة، ولا تناحر ماروني عليها. الا ان البلاد رزحت تحت وطأة حرب اهلية طائفية، تصارع على ارضها نفوذ مصري ـ سوري في مواجهة نفوذ تركي ـ ايراني ـ عراقي - اردني.
في بعض ملاحظات السفراء امام محدثيهم اللبنانيين:
1 ـ من المبكر الاعتقاد بنتائج وشيكة للحملة العسكرية التي تقودها واشنطن ضد «الدولة الاسلامية»، ما يعزز شكوكها في نزاع طويل الامد يمتد الى سنوات. مواجهة عسكرية وامنية في آن تحتاج الى اكثر من عشرات بل مئات الاغارات الجوية، الى قوات برية تتحرك على الارض على نحو رهان الادارة الاميركية على الجيش العراقي والبشمركة الكردية في وقت لاحق. تستهدف الغارات مواقع «داعش» لتدميرها، الا ان الحوار الايراني ـ السعودي هو مَن يرسم العراق.
2 ـ تميز واشنطن في توجيه ضرباتها بين العراق وسوريا، وتقارب اهداف الغارات على نحو مغاير. لا تضرب في العراق الا حيث يتمكن الجيش العراقي والبشمركة من ملء الفراغ، مع يقينها بأن الميليشيات الشيعية الموالية لايران التي تقاتل بدورها على الارض نفسها تستفيد من الضربات لملء الفراغ الامني. في حين تبدو نتائج الاغارات على مواقع «داعش» في دير الزور والرقة غامضة وملتبسة لافتقار المنطقة المترامية الاطراف الى مَن يملأ الفراغ. لا يسع نظام الرئيس بشار الاسد الوصول الى هناك، ويقصر حملاته العسكرية على معارضيه المسلحين على الشريط الاوسط من درعا جنوبا الى حلب شمالا في منطقة يتجمع فيها اكثر من 75 في المئة من السكان وتشكل عصب قوة النظام.
للمرة الثانية
بعد 1958 يرسم
العراق مصير
انتخابات الرئاسة

ومن دون ان يتوخى حقاً مساعدة نظام الاسد على الاستفادة من ضرب عدو يجبهه الفريقان كل لاسباب مناقضة للآخر، فان الخيار المطروح امام الرئيس الاميركي ـ تبعا لتقويم السفراء امام محدثيهم اللبنانيين ـ ليس بين متطرفين ومعتدلين، وانما بين متطرفين والنظام. كلاهما لا تريده واشنطن على الارض السورية. في احسن الاحوال لا تريد الاسد بالذات يستمر حيث هو في السلطة. بالتأكيد لا تريد ايضا مؤازرته على «داعش»، الا انها غير قادرة على منعه من جني ثمار الحملة الدولية على «الدولة الاسلامية»، لكن من حساب المتطرفين بالذات.
3 ـ تقصر الدول العربية الخمس المنخرطة في الحملة الدولية (السعودية والامارات والكويت والبحرين والاردن) توجيه ضرباتها على أهداف داخل سوريا، دونما قصف مواقع مماثلة في العراق بذريعة الحؤول دون استفادة الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة هناك من نتائج تدمير «داعش».
بيد ان الامر لم تقاربه تركيا وقطر على نحو مماثل في سوريا. كلاهما متهمتان بدعم التنظيم السنّي المتطرف. الاولى بامرار الوف مسلحيه عربا واجانب عبر حدودها الشاسعة مع سوريا والعراق ومدّه بالسلاح والعتاد، والثانية بتمويله. الا ان ابداءهما في الايام الاخيرة، تحت وطأة ضغوط واشنطن، استعدادا واضحا للانضمام الى التحالف انطوى على هدف مختلف، وهما يدركان تماما ان المعارضة المسلحة السورية ـ يسميها الاميركيون المعتدلة ـ غير قادرة على ملء الفراغ. بذلك يساعد تقويض الدولة الاسلامية على تعويم الاخوان المسلمين في الحرب السورية الدائرة على النظام، واعادتهم بقوة الى صلب المعادلة العسكرية والسياسية في انتظار جنيف ـ 3.
مذ صعدت «داعش» انكفأ التأثير الفاعل للاخوان المسلمين، واوشك الجيش السوري الحر وفصائل معارضة اخرى على التحلل. وعلى غرار دول الخليج الخمس، اختارت قطر سوريا مسرحا لعملياتها الجوية. وفيما ترمي الدول الخمس الى اضعاف التنظيم المتطرف وشل قدراته على التحرك ومنع تمدده في اي اتجاه وخصوصا الى العراق من غير التمكن فعلاً، الى امد قريب من التخلص منه، تذهب الدوحة وانقرة مجدداً الى خيار راهنتا عليه، وبدا في السنوات الثلاث الاولى من الحرب السورية انه على قابي قوس او ادنى من بلوغ اهدافه، وهو تحوّل الاخوان المسلمين القوة الرئيسية القادرة على حسم الصراع مع نظام الاسد. انعشت آمالهما آنذاك التجربة المصرية قبل ان تقوّض نفسها بنفسها.