يشهد اللبنانيون اليوم واحداً من أبرز فصول الفساد السياسي. فالتسوية التي توصلت اليها الأطراف السياسية في سياق إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لا تتضمن زيادة الضرائب على الفقراء في لبنان فحسب، بل تتضمن أيضاً «شطب» كل تفاصيل المرحلة المالية السابقة برمّتها وإغلاق الباب أمام محاسبة المرتكبين والمخالفين الذين أنفقوا آلاف المليارات من دون أي سند قانوني. مثل هذه التسوية مذلّة للبنانيين وستمعن في «تشريع» مدّ اليد إلى المال العام.

هل ستوافق الكتل النيابية على منح الحكومات المتعاقبة براءة ذمّة مالية؟ في ضوء المعطيات المتوافرة من نواب في عدد من هذه الكتل الفاعلة، التي عملت على خطّ تسوية سلسلة الرتب والرواتب، فإن وجود هذا البند هو المطلب الأساسي للرئيس فؤاد السنيورة منذ سنوات عديدة.، لا بل إن السنيورة لم يكتم رغبته في الاستحصال على براءة ذمّة في أي من جلسات التفاوض السابقة، سواء كان موضوعها سلسلة الرتب والرواتب أو مواضيع أخرى، لكن هذا الامر كان مرفوضاً من الجهة السياسية المقابلة خلافاً لما هو عليه الوضع اليوم. ففي جلسات التفاوض الأخيرة التي عقدت على مدار الأيام الماضية تبيّن أن موافقة السنيورة على تمرير السلسلة «ستثمر» تعهداً من وزارة المال بإنجاز الحسابات النهائية للدولة عن السنوات السابقة وإرسال مشاريع قطع الحساب إلى مجلس النواب وديوان المحاسبة، ويلي ذلك إرسال مشروع قانون الموازنة العامة وإقرارها بعد إقرار قطوع الحسابات السابقة، على أن تبقى رقابة ديوان المحاسبة المؤخرة على قطع الحسابات.
هل يمكن تفسير هذا التعهد على أنه التسوية التي ينتظرها السنيورة لـ«شطب» قضية الإنفاق غير المقونن منذ عام 2005؟ يعتقد بعض النواب أن هذا التعهد هو تسوية مجزأة على مرحلتين؛ الأولى تتضمن إقرار مبدأ التسوية في مجلس النواب وقوننة الإنفاق السابق في جلسات يعقدها مجلس النواب بعدما اتفقت الغالبية النيابية على إمكان عقد جلسات تشريعية. أما المرحلة الثانية، والمتصلة بعمل ديوان المحاسبة ورقابته المؤخرة، فلا يؤمل منها الكثير لأنها ستكون خاضعة للحسابات السياسية أيضاً.
في موازاة هذا التفسير، تبدو حسابات الكتل النيابية ميّالة أكثر نحو هذه الفرضية في ظل لحظة تنطوي على تقاطعات سياسية متصلة باستحقاقات من النخب الأول، أبرزها انتخاب رئيس للجمهورية وانتهاء ولاية مجلس النواب وما يقال عن التمديد الثاني لهذا المجلس... وبالتالي فإن مثل هذا اللحظة قد تنقذ «المأزومين». وفي رأي الوزير السابق شربل نحاس، فإن أي تسوية مالية للمرحلة السابقة، من دون أي محاسبة، ومن دون إعادة الانتظام وفق الأصول والقوانين، تعني أن هناك «عصابة ولديها مجلس إدارة يمنح أحد أعضائها براءة ذمّة عن كل ارتكاباته. المفروض أن الشعب هو من يمنح مثل براءة الذمة هذه. يجب ألا نقبل أقل من انتخابات نيابية».
يعتقد نحاس أنه لا يمكن منح براءة ذمة لأحد عن جرائم سابقة ارتكبها مع شركاء له، ولا يمكن أن يفقد اللبنانيين أي حقّ لهم بالمراجعة في هذا الأمر «لأننا نتعاطى هنا مع نظام فاقد الشرعية. يجب أن نوقف التعامل معه». أما لجهة ما يمكن أن يقوم به اللبنانيون، فهو يبدأ من خلال مطلب واحد يتعلق بأن تضع السلطة القضائية يدها على كامل هذا الملف وأن تفنّد المخالفات والارتكابات وتحاسب أصحابها.