من يقارن مذكرات بول بريمر، الحاكم الأميركي للعراق (13 أيار 2003 - 28 حزيران 2004) مع كتاب المعتمد البريطاني في مصر اللورد كرومر (1882 - 1907) «مصر الحديثة»، ومع «أوراق» جيرتروود بيل التي كانت أم العراق الملكي عام 1921، والتي وصفها عبد الرحمن منيف في مقدمته لأوراقها بـ«المرأة التي أنشأت دولة ونصبّت ملكاً» - يدرك الفرق السحيق بين الأميركيين والبريطانيين في معرفة البلدان المحتلة من قبلهم.

منذ عام 1843 تمت ترجمة كتاب الشهرستاني «الملل والنحل» إلى الانكليزية، وكان مادة أساسية لدراسة رجال الخارجية والاستخبارات وموظفي الإدارات البريطانية الاستعمارية في بلدان العالم الاسلامي. كان الفرق بين الانكليز والفرنسيين في تعاطيهم مع بلدان المستعمرات أنّ لندن تدير مستعمراتها من خلال دراسة ممكنات تسيير القوى المحلية في المجتمع المعني لمصلحتها، فيما باريس كانت تدير مستعمراتها من خلال أجندات محمولة من المركز الاستعماري الفرنسي ونظرات يحملها موظفوها تتسم بطابع استشراقي ورؤية ثقافية فيها «العدو» و«الصديق» في المجتمعات المحلية.
كان حجم المقاومات للاستعمار البريطاني أقل من تلك التي واجهتها باريس وأقل عنفاً، ولم تترك غلاً أو ضغينة لا تزالان مع الزمن كالذي تركته فرنسا في الجزائر وسوريا وفييتنام ومدغشقر. تركت لندن خلفها ميلاً لتقليدها اجتماعياً وثقافياً وإدارياً، كما نجد عند الهنود والباكستانيين منذ عام 1947، وتركت ألغاماً مدروسة ما زالت تنفجر بعد رحيلها عن مستعمراتها، مثل مشكلة كشمير، ومشكلة جنوب السودان، ودولة إسرائيل على أرض فلسطين، ومشكلة التاميل والسنهال في سيلان.
هناك ميل عند الأميركي نحو النظرة الانعزالية عن العالم، وقد عبّر عن هذا «مبدأ مونرو» الذي ساد السياسة الأميركية في نأيها عن العالم القديم بين عامي 1823 و1917 عندما انخرطت في الحرب العالمية الأولى. كان هذا طبيعياً أن يسود في مجتمع أفراد هاجروا للعالم الجديد بعد إدارة الظهر لماضيهم في «القارة العجوز»، أو لطوائف مثل البيوريتان الذين هربوا من اضطهادات ملوك آل ستيوارت في انكلترا منذ عام 1620. هناك ميل آخر عند الأميركي لمماثلة العالم بأميركا، أو لاعتبار «الآخر» يشبه «الأنا». يؤدي هذا عند صدمة اكتشاف الاختلافات عن نمط الحياة الأميركية إلى دفع الأميركي نحو الانكفاء على الذات والانعزالية. وعندما كان الأميركي يحمل رسالة عالمية فهذا كان يتمّ من خلال نشر نمط الحياة الأميركية كما عند «المحافظون الجدد»، ومعظمهم تروتسكيون سابقون، لما أرادوا نشر «القيم الأميركية» في «الديموقراطية» و«اقتصاد السوق» عبر غزوتي أفغانستان والعراق، وقد كانتا ردتي فعل أميركيتين بفعل غزو أحسّه الأميركي لداخله الانعزالي في يوم 11 سبتمبر 2001 لما ضربت العاصمتان الاقتصادية والسياسية للعالم.
كان حجم المقاومات للاستعمار البريطاني أقل من تلك التي واجهتها باريس

طرح «المحافظون الجدد» نظرية «بناء الأمم». فشل هذا في كابول وبغداد. هناك ميل انعزالي كبير هو الذي أصعد باراك أوباما إلى البيت الأبيض في انتخابات رئاسة عام 2008، اجتمع فيه الفشل في أفغانستان والعراق مع نشوب الأزمة المالية ــ الاقتصادية التي بدأت في نيويورك منذ منتصف أيلول 2008. هناك شيء جديد في هذه الانعزالية الأميركية الجديدة تختلف عن القديمة في كونها أتت كرد فعل على فشل أمام تعقيد مشكلات العالم القديم وليس هرباً منه كما نجد في «مبدأ مونرو».
بعد فوز رونالد ريغان بانتخابات الأول من تشرين ثاني 1980، قام بتعيين القاضي ويليام كلارك في منصب مساعد لوزير الخارجية. أمام لجنة الكونغرس المختصة بفحص المعينين الجدد لمناصب إدارة ريغان فشل كلارك في تعيين مواقع بلدان عديدة على خريطة الكرة الأرضية. في حزيران 1982 أصبح كلارك مستشاراً للأمن القومي عند الرئيس ريغان. تروي صحفية أميركية أتت إلى العراق بعد أسبوعين من سقوط بغداد بيد الأميركيين في يوم 9 نيسان 2003 كيف كانت دهشتها كبيرة، أمام مرأى الجموع الذاهبة إلى كربلاء لحضور أربعينية الحسين وحزنها الطازج، لما عرفت أن موته لم يكن يومها أو في الأسبوع نفسه بل قبل ثلاثة عشر قرناً ونيف من الزمن، ماجعلها تسأل: أي غابة مجهولة أتينا نحن الأميركيين إليها؟
ليس بول بريمر أفضل كثيراً من تلك الصحفية الأميركية في معرفة العراق: لم يكن يعرف «اليوم التالي» لآثار وتداعيات قرارين اتخذهما بعد استشارة واشنطن: 1) اجتثاث حزب البعث 2) حل وزارة الدفاع العراقية وكل الوزارات ذات الصلة بالأمن الوطني مع كل التشكيلات والأجهزة ذات الصلة. أنشأت القرارات تلك التي اتخذها بريمر، بعد مشاورة وموافقة إدارة بوش الابن، فراغاً عراقياً ملأته طهران والمنظمات الشيعية العراقية المحلية في السلطة وملأته «القاعدة»، ومنظمات مختلفة أفرزتها «المقاومة العراقية» في الوسط الاجتماعي لسنة العراق العرب الذين شعروا بالتهميش والاقصاء في مرحلة ما بعد صدام حسين بعد أن حكموا بغداد منذ عام 1921 إثر معاقبة لندن لشيعة العراق الذين كانوا عماد وعصب ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني.
في الفترة الأخيرة قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إنّ «أجهزة الاستخبارات الأميركية قد قلّلت كثيراً من خطر تنظيم داعش، ولم تستطع التنبؤ به». قال أوباما هذا الكلام بعد دفعه لتشكيل تحالف دولي – اقليمي عريض ضد «داعش». قبل 10 حزيران 2014 وسقوط الموصل بيد أبي بكر البغدادي كان أوباما متفرجاً على ما يجري في سوريا والعراق منذ اعلان البغدادي في 9 نيسان 2013 «دولة الاسلام في العراق والشام» (داعش).
هل تخلي أوباما المفاجئ عن انعزاليته عبر تشكيل التحالف الجديد ضد «داعش» يحوي ادراكاً لـ«اليوم التالي»، أم أنّ الأمر تكراراً أميركياً لما جرى مع بول بريمر وبوش الابن؟
* كاتب سوري