«تربيتي المسيحية تنتفض» لدى سماع عبارة «الحضارة اليهودية المسيحية»، قال الباحث والوزير السابق جورج قرم خلال محاضرة «بنية الديانات التوحيدية وأساليب توظيفها في الميدان السياسي والحربي» التي افتتحت بها كلية العلوم الدينية في «جامعة القديس يوسف» (اليسوعية) أخيراً سلسلة ندواتها الأسبوعية للسنة الأكاديمية الجديدة.
رأى قرم أن المسيحية «انقطاع» عن اليهودية، أو «تجاوز» لها، لكن المقولة تلك توظَّف في سياقات أخرى «أكثر سخافة» من سابقتها، هي مقولة «حرب الحضارات» لصامويل هانتينغتون. ودعا قرم إلى «فضح الغايات الدنيوية للتحريض الديني والمذهبي»، ونزع اللبوس الثقافوي عن الحروب، منبهاً إلى أنّ الانسياق وراء دعاوى «حوار الديانات أو الحضارات» ينطوي على تسليم ضمني بنظرية هانتينغتون. ورفض قرم خطاب «حماية الأقليات»، مشيراً إلى أن «معركتنا (هي) الحفاظ على التعددية»؛ والأخيرة ليست «التعددية الثقافوية المضخمة» من قبل الأبحاث الأنثروبولوجية التي تتناول المذاهب والأعراق كـ«أنواع خاصة من الحيوانات»، بغرض تفتيت المجتمعات المستهدفة مذهبياً وعرقياً، كما تُظهر الخطط الأميركية «الموثّقة» لإثارة الحروب السنية – الشيعية التي تبنى على «الذاكرة الساخنة الانفعالية» التي تتعامل مع أحداث حصلت قبل نحو 1500 عام، كأنها حصلت البارحة!
جملة من الآراء والمواقف ساقها قرم في محاضرته. طالب «ما يُسمى المجتمع الدولي» بامتناع الدول عن ادعاء تمثيل الديانات، وهي «بحور» من التعددية، مبدياً استغرابه ممن لديه «جرأة ادعاء النطق باسمها». ورفض تحميل «التوحيد» عامة، أي الأديان السماوية الثلاثة، المسؤولية عن «العنف» والحروب واتخاذها «حجة لمآرب دنيوية»، رغم اعتباره أنّ اليهودية شيء، والمسيحية والإسلام «شيء آخر».
استغرب كيف يعتبر بعض المسيحيين أن فلسطين لا تعنيهم
اليهودية أتت بمفهوم «الحرب المقدسة»، واصفاً إياها بـ«أم العقائد الدينية الجهادية»، مشيراً إلى فارق كبير بالدعوة إلى القتال في آيات القرآن المدينية خاصةً، و«الجو الحربي المتواصل» في العهد القديم.
أوضح قرم أنّ العرب والمسلمين رفضوا الصبغة الدينية لما يسميه الأوروبيون والأميركيون «الحروب الصليبية»، فسموها «حروب الإفرنج»، تظهيراً لطبيعتها كغزوات أجنبية، مشيراً إلى أنّ أوروبا كانت «بحاجة للتوسع» آنذاك، نظراً إلى نمو عدد سكانها وتوسع اقتصادها، رافضاً «حجة تحرير القدس من المسلمين».
لولا الحرب الباردة التي أنتجت الراديكالية الإسلامية، لكان بن لادن «هامشياً»، يقول قرم، مشيراً إلى أن مجريات الصراع رسّخت في الأذهان صورة مغايرة للإسلام، «دين الرحمة» الذي خبره في مصر ولبنان. كذلك، إن تحالف الوهابية مع آل سعود الذين أقاموا دولتهم عام 1925 بدعم من الإنكليز، أدى إلى «تسييس» الدين وتوظيفه في خدمة المصالح الخاصة للعائلة المالكة ولرعاتها الأجانب، ثم ظهرت حركة «الإخوان المسلمين» في مصر عام 1928 لتعمق الاتجاه نفسه، وفق قرم. أما التحول الأكبر، فجاء مع قرار الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة باستعمال الدين الإسلامي لإسقاط الاتحاد السوفياتي، فدربت السعودية وباكستان عشرات الآلاف من الشبان المسلمين لإرسالهم إلى أفغانستان. ورأى قرم في ظاهرة الجهاديين هذه «سلاح تدمير ذاتي للأمة العربية».
واستغرب قرم في الآن نفسه كيف يعتبر بعض المسيحيين أن فلسطين لا تعنيهم، «كأن المسيحية تنازلت عن الجذور الأرضية لوجودها، وكأنما المسيح ولد في واشنطن». كما أن مدارسنا تقدم «ثقافة شاملة» عن أوروبا، فيما لا تُدرّس شيئاً عن «عظمة الكنائس السريانية والآرامية التي أسهمت في بناء الحضارة العربية الإسلامية»، قال قرم، داعياً إلى مساعدة الأجيال الجديدة على التجذر في بلادنا؛ فأي فكر هو ذاك الذي ينظر إلى ثقافة المجتمع كنتاج لتجاربه التاريخية، بكل عناصرها، وارتباطها عضوياً بالأرض؟
وأشار قرم إلى آيتين واضحتين كل الوضوح في قبول التعددية: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، على النقيض من «صدام الحضارات»، وأيضاً «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، وأيضاً «لا إكراه في الدين»، مشيراً إلى أنّ بعض فقهاء الإسلام «شلوا استعمال هذه الآيات».