هكذا إذاً. الأدب الفرنسي أيضاً وأيضاً. بعد ست سنوات على فوز الروائي جان ماري لوكليزيو بالجائزة الأدبيّة الأشهر في العالم، ها هي الأكاديميّة السويديّة تختار مواطنه وزميله باتريك موديانو لـ«نوبل الآداب» التي أعلن عنها ظهر أمس في استوكهولم. كلاهما ينتمي إلى ذلك الجيل الذي ولد في الحرب العالميّة الثانية، وحمل أسئلتها المعلّقة وندوبها.
هذا الجيل ذهب بعد مارغريت دوراس وآلان روب غرييه وسائر روّاد «الرواية الجديدة»، إلى مشاغل سرديّة وجماليّة تتجاوز اللعبة الشكليّة الى رحلة بحث حميمية، شخصيّة، شبه محايدة في الظاهر، عن أطياف الحكاية، وندوب الذاكرة المشوّشة، ومتاهات التاريخ الملتبس الذي يطارد الشخصيات بأحابيله وفراغاته وألغازه. لو كليزيو وراء موديانو، سنوات كثيرة بعد كلود سيمون (١٩٨٥) الذي تفصله مسافة شاسعة عن ألبير كامو وفرنسوا مورياك في الخمسينيات، بعدما رفض جان بول سارتر الجائزة عام ١٩٦٤. ومع ذلك لم تكن مفاجأة كاملة إذا نظرنا الى مكاتب المراهنات التي كان الكاتب الفرنسي يحتلّ فيها بالأمس مرتبة مرموقة، بعد الياباني هاروكي موراكامي والكيني نغيغي وا تيونغو. صاحب «كي لا تضيع في الحارة» (آخر أعماله هذا العام)، مترجم ـــ تماماً مثل خلفه الفرنسي ـــ إلى ٣٦ لغة، بينها السويدية طبعاً لدى ناشرة لوكليزو أيضاً، أي «إليزابيت غراب» المعروفة بـ«مَداخلها» الى الأكاديميّة السويديّة.
ولم تكن مفاجأة كاملة فوز موديانو بنوبل الآداب، إذا نظرنا إلى أهميّة أدبه وخصوصيّته (إضافة الى الانتشار). باتريك موديانو ابن الممثلة الفلمنكيّة والأب اليهودي السكندراني الذي تاه بين البلاد والمهن، وعمل على حافة القانون، وأفلت من المحرقة، وقطع معه باتريك في السابعة عشرة ليمضي حياته الأدبية بحثاً عنه، أو محاولاً التعرّف إليه. موديانو ابن الجرح والحيرة والتشرّد والفقد والقطيعة والغياب وعقد الذنب المختلفة، حمل أيضاً موت أخيه الصغير عبئاً على تلك الطريق المتعرّجة، وحسم مساره بعدما أرشده الكاتب ريمون كونو، صديق أمّه وأستاذه في الحساب الهندسي، إلى حرفة الكتابة. في الثالثة والعشرين، أبحر عكس التيّار، منذ روايته الأولى «ساحة النجمة» التي أعادت النظر ـــ من قلب أيّار ١٩٨٦ ـــ في الرواية الرسميّة للاحتلال والمقاومة، وفي علاقة فرنسا المثاليّة والبطوليّة بالحرب العالميّة الثانيّة. وقف حائراً عند أخاديد التاريخ وتمزّقاته، من المحرقة إلى حرب الجزائر إطار روايته الرابعة «فيلا تريست» (١٩٧٥) على ضفاف بحيرة ليمان، كتب بلغة «بيضاء» تقنيّة، تفتعل البرود، بدقّة كالتي نجدها في تقارير الشرطة العزيزة عليه. كتب كي يحلّ هذه الأمور الغامضة الملتبسة التي تلاحقه، كأسئلة الوجود والهويّة. نقّب طويلاًً في «سجل القيد العائلي» (١٩٧٧) عن سيرته المبعثرة، كما أشياء الوجود. حام كاللصوص «في شارع الحوانيت المعتمة» (١٩٧٨، جائزة «غونكور») مع الراوي وهو محقق خاص فقد ذاكرته، يتعقّب أشخاصاً مجهولين من شأنهم أن يساعدوه على الاهتداء إلى حكايته. وأعطى روايات عذبة (بعضها معرّب في القاهرة ودمشق وبغداد وتونس)، تقيم بين المتخيّل والواقع علاقة خاصة، من خلال لعبة مرايا هي في صلب تجربته الأدبيّة.
موديانو يتيم طفولة امحت على عجل، راح يسجّل «وقائع اختفائها» (بالإذن من السينمائي إيليا سليمان). كاتب مقيم «في مقهى الشباب الضائع» (٢٠٠٧)، مسكون بالغياب والامحاء والفقد، عاجزاً عن الإحاطة بفوضى العالم. لطالما أراد أن يعرف كيف يعيش الناس بعد اختفائهم. أن يرصد هذا «اللاشيء تقريباً» الذي يغيّر مجرى الأحداث. إنّه كاتب التفاصيل الصغيرة، أدبه مواجهة بين الصمت وضرورة الكلام. روائي مينيمالي يناضل من أجل التذكّر، ويمكن أن نكتب: ضد ارتجاجات الذاكرة، أو ضدّ النسيان. بل إنّه ذهب في بحثه «إلى أقصى حدود النسيان» (١٩٩٦) إلى حيث ينتهي العالم، في معسكرات الموت النازيّة على خطى بطلته «دورا برودر» (١٩٩٧). في الفلك نفسه يدور بطله المضاد «لوسيان لاكومب» في فيلم الراحل لوي مال الذي كتب له السيناريو عام ١٩٧٢. ترك شخصياته تحوم سط ديكورات مريبة، غالباً في مناخات باريسيّة مستعارة من إميل زولا، وأماكن مهددة بالزوال، وأزمنة متقطعة تخرج أضغاثها فجأة إلى الضوء. بعد فوزه بنوبل، سيدخل موديانو المكتبة العربيّة بقوّة ـــ على أمل أن يلتقط المترجمون معادلات موفقة للغته الخاصة جدّاً ـــ وستجد رؤاه مكانها في قلب الواقع العربي المهزوز.