«هكذا/ كسمكَةٍ علِقتْ بشِباكِ صيّادٍ مَيْتْ/ لا أموتُ.. ولا أحيا/ تماماً كتلكَ السَمَكَةْ.. تعيسةِ الحظِّ/ لا أموتُ... ولا أحيا» يمكن تلمس مثل هذا القلق الوجودي ضمن معظم قصائد «في غياب الرب» الديوان الثاني للشاعرة ناهدة عقل الصادر عن «دار التكوين». هي ترسم عمقاً آخر لمفردات الحياة، وتُداوِرُ اللغة والمعنى؛ من أجل إفساح المجال أمام صور جديدة وقصائد مُتَزَيِّنة بكامل حُليِّها وهدوئها.

رغم الكشوف الصادمة التي تحققها قصائدها، إلا أنها تبعث على الطمأنينة، فكأن الكتابة هنا فعل تطهيري يبرز من خلال التوغل أكثر فأكثر في مناجاة الذات وأحلامها من دون أية رغبة في التشاوف. القصائد تمر بسلاسة المُسَلَّمات، وخصوصية الرؤية التي تحققها عقل. ففي قصيدة «لأنه ربّ» تقول:
«لأنه ربٌّ:/ لا يُغفَرُ لهُ شيءْ/ لأنَّهُ غنيٌّ وغنيٌّ/ لا يُعطَى شيءْ/ لأنَّهُ لا يشكو أو يتضرَّعْ/ وتبدو دموعهُ للناظِرِ مطراً يُحسَدُ عليهْ/ لا أحدَ يظنُّ بأنّهُ يتألّمْ/ ما أقسى حياةَ الربّْ/ وما أوجعَ موتَهْ/ لا يتذكَّرُ أحدٌ أنّهُ حيّْ/ والكلُّ ينسى موتَهْ».

ماهرةٌ في التأرجح بين الحياة والشعر، ودغمهما معاً في قصيدة غزيرة بالخيبات، والرغبة في الانعتاق من الألم. الألم الذي يمر بين صفحات الديوان كلازمة طويلة ومستمرة، فكل ما يجنيه الشاعر بعد سنين البكاء ــ بحسب عقل ــ هو كيف يقول: «أنا أتألم».
ها هي صاحبة «ليل البتول» في قصيدتها التي حملت عنوان الديوان وأهدتها إلى الشاعر الراحل جوزيف حرب تقول: «الآنَ أفهم/ حزنكِ/ يا مريمْ/
أراكِ كما أرى نفسي الآن/ يائسة/ صامتة/ وتبكينْ/ تذبحُكِ ذِكرى الخشبَهْ/ وتُدمي قلبَكِ صورةُ المسامير/ آهٍ/ لو أنّه لم يمُتْ عطشاناً لهذا الحدِّ على الأقلْ/ يقولُ قلبُك/ لو أنهم لم يرفعُوه عالياً هكذا قُبيلَ دَفْنِهْ/ لو أنَّهُ لمْ يصِرْ رَبّاً/ الآنَ/ أفهمُ ظِلَّ الحَسرَةِ في عينيكِ/ ظلَّ الحسرةِ في عينِ الأُسطورة/
أفهمُ أنْ لا تُصدّقي موتَه/ أن تستحضِريهِ حينَ يُطيلُ غيابَه/
أن تهجُري قبرَه/ إذْ تحلمينَ قيامَهْ!/ أنْ لا تُنجِبي مِن بعدِهِ غيرَه/ أنْ تموتي حيثُ نزعُوا مِنهُ حياتَه/الآنَ أفهمُ/ تاريخَ الألمْ».
طمأنينة اللغة هي السمة الأعم لقصائد عقل حتى في كتابتها عن الحرب.
هادئة متوازنة ومتعقّلة في التوصيف
هي هادئة متوازنة ومتعقّلة في التوصيف، لكأنّها تأسر الحرب وشناعتها بقصيدة، كما أنها تحيل إلهامها الشعري لتلمُّس أسباب الكراهية التي تجعل من الحياة مقبرة. في الحروب، تنتهي الورود جثثاً والأرواح في توابيت، كل ذلك تحكيه صاحبة «مفاتيح الغيم» بشيء من الملحمية، فكما تقول: «في الحرب، أكثر من البشر، يُقتل الورد، لكأنّ مزيداً من الموت يموِّه قبح المذبحة!».
لا تكتفي عقل بذلك، بل ترسم وحدتها بانعكاس تشتت الناس. ها هي في قصيدة «حكاية أزلية»، وحيدةٌ بلا ربِّ يحرسها من شرِّ العالم تبحث في الفرقة وتعالجها شعرياً، وفيها تقول: «وبدلاً من أن يرشدوهم: «أيّها الناسُ شدّوا على أيدي الناس». قالوا لكلِّ عصبةٍ منهم: قد سرقَ الآخرون منكم عزاءكم، سرقوا الله! فصار لكلٍّ منهم هدفاً، عدوّاً، أخاً في عقيدةِ الكراهية، وإلهاً يحتاجُ ـ لكي يظلَّ إلهاً ـ دماءَ مَنْ لا يؤمنُ به. وأمّا الوحيد فظلَّ وحدَهُ لا ربَّ لهُ، لا صديقْ.
ووحده من ظلَّ يرى الحُفرهْ».
نستشعر «في غياب الرّب» الخاص بعقل مناجاة خاصة تتقصى وجوده في ظل الألم، وتستجديه ليكون شاعراً بعمق المحنة، فالغياب هنا هو محصّلة بديهية للبحث الدائم عنه، وفي ذلك تقول: «غياب الربّ مقولة شعبية بصيغة أو بأخرى. أتت من صميم واقع الحرب المأساوي في سوريا. أمام الموت العبثي للمئات والآلاف من الآباء والأبناء والأخوة والأصدقاء والأطفال. تشتدُّ الحاجة لوجود ربّْ. ويتعزّز الإحساس بغيابه بالنسبة إلى الشعب الذي يعيش مثل هذه الكارثة أيّاً كانت سويته الفكرية والثقافية والمعرفية. فما بالك بشعوبٍ ما زال الدين يمثّل هويّتها الحقّ».