حكمت العيد

محزن ان تعلم بموت صديق من صفحة الوفيات في جريدة. محزن فعلا. فجأة تتنبه الى المسافات التي باتت تفصل بيننا في المدينة الواحدة. كيف يمكن لشخص ألا يرى صديقا لسنوات وسنوات وهو يسكن في شارع قريب، او حتى في المدينة نفسها؟

وحكمت العيد، الذي تركنا الاسبوع الماضي، وكتب الكثيرون عنه، يستأهل هذه الكتابة وهذا الرثاء، لكنني، وقد كانت لي معه تجربة ذات دلالات كمحام حقوق، لم اكتب. ظننت أنني تأخرت. ثم قلت في نفسي: لا.. فالكتابة عن الراحلين أشبه بالكتابة في سجل. تتجمع بعدها الشهادات كقطع فسيفساء لترسم صورة نهائية للراحل، كما رست عليها تجارب ايامه. هو نوع من صورة/حصيلة، هي الباقية في أذهان عارفيه.
لذا رأيت انه كان لا بد من أن اسوق هذه الحكاية. بعد عودتي الى البلد توظفت في تلفزيون المستقبل قبيل بدء بثه بقليل. لكن، وبعد سنة تقريباً، وكان الحريري الأب في سدة السلطة، اختلفت مع التلفزيون. فقد كنت عائدة لتوي من هجرتي الفرنسية، وكان «المستقبل» يولد من الخليج، لذا، حصل تصادم بين العقليتين في الموضوع المهني. فما كان من الادارة، ذات المرجعية الخليجية في باب الحقوق، الا ان «طردتني» على نحو نفطي. يعني؟ يعني انها امهلتني 48 ساعة لـ "أضب كلاكيشي"، كما لو كنت مياومة او موظفة في احدى دول الخليج، حيث يمكن للكفيل ان يطردك من دون اي حساب وحتى بدون سبب مقنع او مهني. لذا، احببت ان اعطيهم درسا في أصول التعامل. هكذا رفعت دعوى صرف تعسفي، مدعمة بالملف اللازم. المهم.. بحثت عن محام يتولى قضيتي، فكنت أُجابه بكلام من نوع: قضية ضد تلفزيون الرئيس الحريري؟ معقولة انتِ؟ ما تحلمي!
كان رفيق الحريري رحمه الله، دولة رئيس ايامها، وتلفزيونه بالتالي كان ايضاً: دولة التلفزيون. حاولت ان اقوم بدعوى جماعية مع المصروفين الزملاء (مع ان وضعي كان غير وضعهم) إلا انهم، كلبنانيين اشاوس، رفضوا، كل بطريقته، ما عدا صبيتين. فمنهم من كان يقول «أكيد ما حدا رح يرد علينا». وآخرون قالوا «سنحكي مع بهية»، وغيرهم قال «انا بعرف فلان الفلاني بيحللي اياها». ولما وجدت نفسي وحيدة، كالعادة: «تيست».
وفي النهاية، نصحني صديق بالمحامي حكمت العيد. قال لي «هيدا ما بينشرى ولا بينباع وآدمي وبيفهم نقابات وبالبلد». وبالفعل، اتصلت به، وكان لقاء. لم اكن اعلم عنه شيئاً: لا عن كونه مناضلا ولا عن كونه يساريا (قبل اليسار الديموقراطي) ولا عن اي شيء.
هكذا، وبالمختصر، حمل قضيتي و.. ربحنا. كان ذلك بعد شهور وليس بعد سنين كما كان المتشائمون يتخوفون..
بعدها، لم يقبل ان يتقاضى اكثر من مصروف الدعوى، وقال باسماً: «ليس من اجلكِ فقط. بل لنعطي المثال للناس».
وفعلا، اصبح ربحي لهذه القضية، ولسنين عدّة، مثالاً يُضرب. لدرجة ان بعض الاصدقاء كانوا يعرّفون عني بالقول «منقدملكم الشخص اللبناني الوحيد اللي ربح دعوى ضد الحريري».
صحيح انه كان كلاما يقال في معرض المزاح، على اساس ان من يستطيع ان يواجه آلة الحريري لا بد ان يكون «نوعا» غريباً من الكائنات المنقرضة، لكنه كان صحيحاً. غير أن من كان يجب ان يعرف عنه كونه كذلك، لم يكن أنا بل حكمت.
وعلمت بعدها، انه صدّ طوال اشهر اتصالات «المقربين» وأصحاب «المونة» (علمت بذلك بالصدفة ومن آخرين) مقابل ماذا؟ مقابل تثبيت حق صحافية شابة لم يكن يعرفها أصلاً، في مواجهة «ثقافة» اللاحقوق النفطية التي كانت قد بدأت تغزو البلد منتصف التسعينات.
ماذا يقال عن رجل كهذا بعد رحيله؟
حكمت.. لا اعرف ما سيكون مكانك في الحياة الأخرى لو كان هناك فعلا حياة ثانية بعد الموت، لكن مكانتك هنا؟ ستبقى متوّجة فوق منطقة الإمتنان داخل بياض القلب.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

نقولا نقولا - 11/6/2014 6:41:37 PM

سيدتي الراقية، ان ثقافة اللاحقوق النفطية لم تعد غزوا فقط بل للأسف الشديد أصبحت عرفا/مقياسا/تقليدا/أساسا (اختري ما تريدي) يتحكم في مفاصل هذا الكيان المسخ الاقتصادية والاجتماعية كما السياسية.....فكلهم أصبحوا طويلي العمر....يا عين....

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

صالح صالح - 10/15/2014 2:56:36 PM

الاستهانة بالتصدي لمن يسمون زورا أو خطأ بكبار القوم هي موضة سائدة في البلدان العربية بسبب عدم المعرفة بالقانون، والاستهتار به من قبل المتنفذين والفساد الإداري والوساطة المنتشرة بيننا. ضحى تقدم مثالا على كيفية التصدي لهذه العقلية أولا، ولمن يسمون بكبار القوم ثانيا، وكسب القضايا على يد أناس مخلصين، رجالا ونساء، لشعبهم وفكرهم وقضايا أناسهم وأوطانهم. التصدي للفساد أمر مكلف أحيانا، ومتعب أحايين أخرى، لكنه جزء من عملية بناء الدول والأوطان ولا بد للجميع أن يحاولوا بقدر استطاعتهم وإلا ضاعت البلدان والقوانين تحت وطأة الظلم والفساد.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مغتربه مغتربه - 10/15/2014 1:57:18 PM

لا أعرفك ست ضحي شخصيا لكنني اشعر انني أعرفك جيدا من كتاباتك. لم أتفاجأ بتصرفك وإصرارك علي حقك ولم أتفاجأ من وفاءك وتقديرك للمحامي الراحل حكمت العيد. في الحالتين ليت اللبناني يعي يوما ما ان المواطن البسيط ، يعني الذي لا يملك سلطه ، هو وحده يمكنه التغيير في بلد الفوضي والفساد. تحيه الي القضاه الشرفاء الذين تجرأوا علي إنصافك

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

نسيب نسيب - 10/15/2014 11:19:47 AM

ما أجمل ألوفاء ولو بكلمة , نفتقد له في أيامنا هذه , شكرا لمقالتك فهي التكريم الأهم لهكذا رجال في بلادنا

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

George Chammas George Chammas - 10/15/2014 6:50:08 AM

فعلاً إن حكمت العيد انسان راقي ونصير للحق. للأسف هذه النوعية من الناس نادرة. وأنت تشكرين على وفائك للحق. لا أدري لماذا قصة كهذه تدر دمعي، مع أني قاربت السبعين، ربما لجمال هذه النفسية التواقة لإحقاق ألحق في زمن تفشى فيه الباطل. أو لجمال وفائك في زمن قل فيه الوفاء.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 10/15/2014 10:39:50 AM

تسلم السبعين ودموعك. مودتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 10/15/2014 4:47:00 AM

وفعلا هيدي القصة لازم الكل يقراها ويفهم انو ما صاير هيك بالبلد الا من ورا هالناس اللي مستسلمة وما بتواجه

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم