انتقادات كثيرة طاولت وليد جنبلاط بعد حديثه التلفزيوني الأخير. جمعت بين مؤيد له ومعارض وحتى محايد، تحت عنوان: لماذا هذا الغزل المفرط حيال الإرهابيين الإسلاميين؟ لماذا هذا الذعر؟ وهل يشكل هذان الذعر والغزل مظلة حامية أم العكس؟قد تكثر حجج المنتقدين، بين داعمة لوجهة النظر هذه، أو ناقضة لها. لكن في معزل عن تلك الزاوية الضيقة، زاوية محاسبة الرجل في موقفه وسلوكه، يظل من الضروري النظر إلى المسألة المطروحة، إلى المشهد اللبناني في سياق فوضى المنطقة برمّتها، من الزاوية التي اضاء عليها تلميحاً وليد جنبلاط.

يظل من الضروري تسمية الأمور بأسمائها، وقول الحقائق بمخفياتها وأسرارها، وهذا بعضها، لمجرد الأمثلة:
على المستوى الدولي، واضح أن واشنطن لا تتعامل مع إرهاب «داعش ومثيلاتها» ــــ وفق استخدام العبارة في قرار مجلس الأمن الدولي كما في كل أدبيات الإدارة الأميركية ــــ على أنه أمر ملحّ يجب استئصاله. في الشكل والظاهر، يتحدث الأميركيون عن سياسة بمدى أعوام. أحدهم قال ثلاث سنوات. آخر قال جيلاً كاملاً. تماماً كما تحدث المحافظون الجدد يوم أعلنوا الحرب ضد «الفاشية الإسلامية» كما سموها بعد 11 أيلول. قبل أن يتراجعوا وينسحبوا ويكتب لهم منظّرهم ريتشارد بيرل: أهدافنا كانت من النوع الصائب. لكن أيضاً من النوع المفترض وضعه في درج مخصص للقضايا غير القابلة للتحقق!
في المقابل، وخلف الموقف الأميركي المعلن، ثمة كلام كثير حول حقيقة الأهداف الأميركية من الحرب ضد «داعش». من قال إن المطلوب ضربها واقتلاعها؟ من يقدر أن يجزم وأن يبني رهاناته وسياساته وخياراته، على مسلّمة أن واشنطن تريد إفناء «داعش» وإبادتها وإلغاءها من الوجود كلياً؟ هل يعقل أن يغفل المرء عن «المكتسبات» الأميركية الكبرى التي حققتها واشنطن بفضل هؤلاء الإرهابيين بالذات؟ بداية إزاحة المالكي عن سلطة بغداد. تفصيل بسيط ربما. لكنه يخفي خلفه مكسباً آخر: دفع طهران إلى طاولة التفاوض بشروط أقل تشدداً. ثم من قال إن احتمال وصول «داعش» إلى بغداد نفسها واحتلالها مرة جديدة، بعد أكثر من عقد على احتلالها الناجح ــــ الفاشل من قبل الجيش الأميركي، لا يكون خدمة كبرى لواشنطن نفسها؟ سنة 2003 احتل بوش العراق. أنفق هناك أكثر من ألف مليار دولار. بعدها جاء الشيعة إلى الحكم. رفضوا إعطاء واشنطن أي ترتيبات نفطية، في البلد الذي ظل ديك تشيني يحلم به منذ أخبروه أن طائرة اصطدمت ببرج في نيويورك. بنى الأميركيون في بغداد أكبر سفارة لهم في العالم. ثم تركوا العراق من دون اتفاق أمني. خرجوا من حلم بغداد بأكبر خسارة بشرية ومالية منذ فيتنام. في المقابل لم يبن الشيعة بعدهم دولة، ولا معهم طبعاً.
مقابل كل ذلك، ماذا تقدم لهم «داعش» اليوم؟ تقدم لهم بدخولها الممكن إلى بغداد، فرصة لإعادة الدخول إلى العراق، من دون أي جندي أميركي على الأرض ومن دون أي سنت مدفوع من جيب أميركا. تجتاح «داعش» بغداد، فيهرع الإيرانيون والسعوديون إلى الأميركيين. تجلس واشنطن معهما على طاولة في جنيف ما. تعيد رسم الدولة العراقية. تعيد تشكيل سلطتها. تعيد تكوين حصتها ونفوذها وضمان مصالحها. ولا تدفع شيئاً، بل تتقاضى فوق كل ذلك ثمن فوزها، سلاحاً من مصانعها لكل الخليج، ونقداً مقابل بضع غارات نيوجرسية في صحراء بعيدة... وإلا أي مفارقة أن تتقدم وحوش «داعش» على كل جبهاتها، تحت غطاء الحرب الأميركية ضدها؟ وحدهما جبهتان انكفأ عنهما إرهابيو «داعش»: إربيل، حيث مصلحة أميركية. والسعودية حيث مصلحة أميركية ايضاً. الباقي كذبة بلون دماء الشعوب وإبادة الأقليات وسبي النساء وعبودية الأطفال واسترقاق جماعات كاملة وإعادة عقارب التاريخ أكثر من ألفية إلى الوراء. إنها حرب عصر الوحوش بأسلحة من حرب النجوم. أما كل الباقي فمجرد «اضرار جانبية».
لننتقل إلى المستوى الآخر، المستوى الإقليمي، من يقدر أو يريد التصدي لتلك الحسابات أو الفرضيات؟ تركيا؟ ها هو إردوغان يلعب بأرواح الكرد، كأنها سترات جلدية في بازار اسطنبول. يرفع صوته بالمناداة على ثمن حياة أطفال كوباني، ولم يجد الشاري بعد. السعودية؟ في استمرار عقمها هي. ترتاح إلى ذهبها الأسود وعقلها المماثل، وإلى أن أميركا لن تجد لها بديلاً في المدى المنظور. مصر؟ غارقة في تعداد ملايينها التسعين، قبل كتابة هذه الكلمات. وتستعد لإنهاكها الآن بإمارة إرهابية مقبلة عليها من صوب ليبيا. إيران؟ أقصى ما تقدر عليه التفكير باستيعاب الضربة الاستراتيجية التي تلقّتها بقطع جسرها إلى المتوسط. من سيواجه، لبنان؟ يكفي ههنا سؤال واحد: أين أصبح عماد جمعة بعد 75 يوماً على توقيفه وتكليفه جيشنا البطل شهداء وذبائح، والوطن زلزالاً وكوارث؟ مثل مرة يتيمة أمام قاضي تحقيق واختفى. لم يعد موجوداً إلا في تصاريح تسوّل المساعدات والكراسي. أين شادي مولوي واسامة منصور؟ سياسي كبير عارف، يقول إنهما صارا على باخرة متجهة إلى عرض البحر... من الذي لا يهوى التسويات في هذه المنطقة؟ من الذي لا يدمن الصفقات والبازارات؟ ماذا تريدون من وليد جنبلاط أن يفعل؟!