«إن التاريخ البشري برمته حتى الآن هو تاريخ الصراعات بين الطبقات»
كارل ماركس


تداعت عدة منظمات أهلية إلى تشكيل ما سمّته «المجلس الاقتصادي الاجتماعي الظل»، المكون من ممثلين عن الفئات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية التي يتكون منها المجلس الاقتصادي الاجتماعي المنتهية صلاحياته منذ 2003، وذلك من أجل أن يكون الظل مكاناً للحوار الاجتماعي، معللة مبادرتها بأنها «في الوقت الذي تحتدم فيه معركة اجتماعية مستمرة من أكثر من 3 سنوات، تتعلق بسلسلة الرتب والرواتب (...)

ويتواجه فيها أطراف عدة من هيئة التنسيق النقابية إلى الهيئات الاقتصادية (...) فإن البلاد بحاجة إلى وجود إطار للحوار الاجتماعي (...) يمتص جانباً من التوتر المجتمعي بدل أن يُسهم غياب مثل هذا الحوار في زيادة حدته»!
أولاً، في الشكل. فكما يقول المبادرون، إن المجلس الأهلي معطل منذ 2003، وقام أصلاً «منقوص التمثيل والصلاحيات والمهام»، وبالتالي إن المبادرة تدعو إلى تشكيل مؤسسة ظل لمؤسسة باتت غير موجودة فعلياً، وهذا ينافي روحية وأصول تشكيل مؤسسات ظل كهذه، في بعض الدول الديموقراطية، إذ إن المؤسسة الظل تقوم على أساس محاكاة المعارضة لمسائل اقتصادية ـ اجتماعية في مواجهة حكومات قائمة فعلاً، وذلك من أجل تحضير المعارضة للوصول إلى السلطة والإمساك بهذه المسائل وتغيير السياسات، وليس أن تكون مكاناً للحوار. وبالتالي إن تشويه هذا الأساس سيؤدي إلى تحويل الجهد الفكري المطلوب بذله في مواجهة السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية للسلطة في لبنان إلى قنوات غير مجدية، إذ إن الوقت ليس للحوار الآن (وحتى لو كان حقيقياً)، وهو أيضاً ليس زمن إحلال «المجتمع المدني» مكان العمل السياسي والنقابي من أجل التغيير.
ثانياً، حتى لو سلمنا جدلاً بأهمية الحوار الاجتماعي، إلا أن أطراف البورجوازية اللبنانية التجارية والريعية والصناعية هي التي رفضت الحوار في السنوات الثلاث الماضية، بل إنها قاتلت بشراسة من أجل إجهاض جميع المعارك الاجتماعية التي خاضتها النقابات والعمال والطبقة الوسطى، من معركة تصحيح الأجور في 2011، إلى معركة التغطية الصحية الشاملة، وصولاً إلى سلسلة الرتب والرواتب. إن الحوار الآن سيشكّل تراجعاً من قبل الحركة النقابية، خصوصاً أن المعركة الأخيرة لم تحسم بعد. وأكثر ما تخشاه السلطة وأطراف البورجوازية هو تجدد التحركات النقابية عبر التظاهرات والإضرابات. والحوار يكون مؤقتاً، وليس دائماً، ويكون بين طرفين قويين وصلا إلى طريق مسدود لاستنباط الحلول، وفي غالب الأحيان تكون النتيجة تراجعاً من السلطة والبرجوازية للحركات المعارضة على شكل إعادة توزيع للدخل والثروة وديموقراطية أكثر. هذا لن يحصل نتيجة حوار في مؤسسات متعددة الأطراف تعتمد الحوار الدائم، كذلك إن هذه المؤسسات أستُحدثت في بعض الأنظمة الرأسمالية المتقدمة عندما وصل الصراع الطبقي والاجتماعي إلى مرحلة من التوازن في إعادة التوزيع، أي أصبحت حصة الأجور ومداخيل العمل مرتفعة في ظل دولة رفاه اجتماعي ونظام ضرائبي يعيد توزيع الدخل والثروة. وحتى في هذه البلدان بدأ الحوار الاجتماعي الدائم يفرغ من معناه، وبدأت تتجلى ظروفه التاريخية المحدودة بسبب اهتزاز التوازن ومحاولة كسره في الثلاثين سنة الماضية من قبل القوى النيوليبرالية.
ثالثاً، إن الصراع الطبقي هو السمة الرئيسية للحراك التاريخي، إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي. والصراع الطبقي ليس فقط محركاً للانتقال من نظام اقتصادي إلى آخر، بل هو أيضاً محرك الانتقال إلى الديموقراطية التي ترافقها إعادة توزيع للمداخيل والثروة، كما حصل في أوروبا، من فرنسا إلى السويد، اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، بدءاً بثورات 1848 وحتى ستينيات القرن العشرين. في هذا الإطار، يقول الاقتصاديان الشهيران دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون في كتابهما «الأصول الاقتصادية للدكتاتورية والديموقراطية» إن «القوة المحركة لليبرالية السياسية واستحداث خطوات ديموقراطية هو التهديد بعدم الاستقرار الاجتماعي، وصولاً إلى الثورة». وقد وصف جون مينارد كينز الصراع في خضم المعركة التوزيعية في بريطانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى بقوله: «إن الطبقات التي ستخضع أولاً لخفض أجورها الاسمية ليس لديها ضمانات بأن هذا الخفض لن يكون لمنفعة طبقة أخرى، وبالتالي فإنهم محكومون بالمقاومة قدر ما استطاعوا وستكون حرباً حتى يتم تحطيم وإخضاع هؤلاء الأضعف اقتصادياً».
إن الأمور واضحة إذاً، إننا في لبنان لا نزال في مرحلة مبكرة من الديموقراطية، حيث لا تزال الطبقات المهيمنة تسيطر على غالبية الدخل والثروة، وتدافع عن نظام ضرائبي يحافظ على هذه الفروقات الكبيرة، وبالتالي المطلوب اليوم اصطفاف طبقي واسع من الطبقات العاملة والمتوسطة من أجل التغيير الديموقراطي والاقتصادي، فإن الداعين لهذه المبادرة عليهم ألا يكونوا كسكان كهف أفلاطون الذين ظنوا أن ظل الأشياء هي الأشياء نفسها. سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً أن اليوم ليس وقتاً للحوار، بل هو زمن الحشد الفكري والمادي والسياسي للتغيير من أجل إنقاذ الوطن والاقتصاد.