يعيش فريق 14 آذار هذه الأيام حالة من النشوة السياسية. نوعاً من اليوفوريا، على قاعدة الاعتقاد «أننا سننتصر قريباً، وقريباً جداً». بالتدقيق في أسباب تلك النشوة، تلاحظ سريعاً أن لا سبب داخلياً منطقياً يدعو إلى ذلك. أصلاً كل الأسباب الداخلية لا تدعو إلى شيء اليوم. فخيوط اللعبة كلها باتت في الخارج.
أزمّة الأزمة كافة في أيدي السائسين الخارجيين. موازين القوى الداخلية لم تتغير. كل الاستحقاقات اللبنانية الممكن، أو المفترض أن تؤشر إلى تكوين موازين جديدة، معطلة. وقد تتعطل لأعوام مقبلة. أكثر من ذلك، بات واضحاً أن جهة خارجية واحدة أقدمت عن سابق تصور وتصميم، على تعطيل المسارات الداخلية. يوماً ما، بعد أن تنتهي هذه المعركة الشرسة، وستنتهي إلى تسوية لا غير، ستنجلي الحقائق. سيعرف ويكتب ويقال أن ميشال عون ذهب إلى سعد الحريري في كانون الثاني الماضي. اتفق معه على مسار من اربع مراحل: تأليف الحكومة. إنجاز الرئاسة. وضع قانون انتخابي جديد. وأخيراً تأليف حكومة وفاقية، تمثل الخطوة التتويجية لعملية إعادة تشكيل السلطة في لبنان على نحو سيادي كامل. اقتنع الزعيم المنفيّ بين الطوع والقسر. بعد أسابيع قليلة أنجزت الخطوة الأولى. تألّفت الحكومة. حاول البعض منذ المحطة الأولى عرقلة المسار. حصلت عملية «تنتيع» في المشاركة، فحسمها الحريري سريعاً. لمجرد أن الحساب السعودي كان واضحاً: لا يمكن الوصول إلى الفراغ الرئاسي بـ»حكومة ميقاتي ــ حزب الله»، ولو لتصريف الأعمال. بعدها صار «تنتيع» ثان في البيان الوزاري، حسم أيضاً. فظهر للجميع أن الاتفاق كبير. ما استدعى تكبير العراقيل والفخاخ... فتعطل المسار. طبعاً ثمة مؤثرات داخلية عملت على التشويش. أحدهم مثلاً أرسل إلى الرياض صورة للافتة التي رفعت قبل أعوام على جسر جل الديب للملك عبدالله السعودي. أرفقها بتعليق: هذا من صنع ميشال عون. آخر سافر سراً ثلاث مرات إلى عواصم خليجية، محذراً مهولاً مستجدياً: أنتم تنتخبون حسن نصرالله شخصياً لرئاسة الجمهورية. لا بل تنصبون الحرس الثوري الإيراني في بعبدا! أفاق سعود الفيصل في إحدى يقظاته النادرة هذه الأيام. تذكر زمن الطائف، يوم أراد فرض أمر غير سيادي على عون، قبل ربع قرن، ورفضه الرجل. فرأى أن حان وقت الثأر، بوضع الفيتو عليه الآن. تعطلت بالكامل قدرة الحريري على التنفيذ. الآخرون في الفريق نفسه، من لبنانيين وإقليميين، استأنفوا العمل على القنوات البديلة والسرية. بالطريقة المعتادة نفسها: يوم ساهم وليد جنبلاط في تأليف حكومة نجيب ميقاتي، زرعوا له أحمد الأسير على باب الشوف. أحد أقطاب المعارضة السورية روى يوماً أنه سأل أحد أقطاب الآذاريين: هل يعقل أن تقيموا أحمد الأسير في قلب صيدا؟ يمكن لأي كان أن يلعب بالنار في السياسة، لكن خارج بيته. لا في صحن دار بيته. صيدا بيتكم، كيف فعلتم ذلك؟! فأجابه الآذاري القطب: هي مسؤوليتكم أنتم. لقد وعدتمونا بأن زوال بشار الأسد مسألة أسبوعين، فقلنا فليلعب الأسير لعبة أسبوعين. الآن مرت سنتان، فصار الرجل حالة!
يوم انتهى الأسير جاؤوا بداعش (للمناسبة، وحول هذه النقطة، إقرأوا «لومانيتي» الفرنسية أمس)، رسالة من زمن أتيلا وجنكيزخان... جاؤوا بها بفكرها الوهابي أولاً، الفكر نفسه المتصل، من ابن تيمية ومجازر جبل لبنان قبل سبعة قرون، إلى مجازر كربلاء والجزيرة مع تحالف وهاب ــ سعود أواخر الثامن عشر ومطلع التاسع عشر، انتهاء اليوم بعرسال. ثم جاؤوا بها، بمالها وسلاحها وطرق لوجستيتها ومحاولة فرض بيئة حاضنة لها بالقوة والخفية وبالطاقية والعمامات المنتحلة. كانوا يدركون منذ اللحظة الأولى أن سنّة لبنان ليسوا أصوليين. الفارق جوهري بينهم وبين غرب العراق. هناك البيئة عشائرية. في لبنان السنة مدينيون، أبناء مدن وحضر. هناك هم معارضون لنظام. هنا هم أركان نظام يحرصون عليه منذ ربع قرن. هناك هم داخليون، بين الصحراء والوعر. هنا هم ساحليون بحريون مفطورون على الانفتاح. فكيف بعد «براكسيس» لبنانية عمرها من عمر انتهاء أسطورة «حماية الثغور». فشلت البيئة السنية الحاضنة في لبنان، فجاؤوا بمن يقتل الجندي العلوي في الريحانية والجندي المسيحي في القبيات ويذبح الجندي السني نفسه، لأنه ابن الوطن...
كلهم جيء بهم من خارج. تماماً كما جيء بالتحالف الرباعي، لحظة الخطيئة الأصلية الأولى بعد استقلال 2005، بوصاية سفيرين. وكما جيء بالمحكمة الدولية على متن يخت ميليس ونبيذه. وكما جيء بالدوحة وقبله بالطائف وبعده الـ 1559. وصولاً حتى الإتيان باسرائيل في 2006، ومن بعد فشلها بالقرار 1701... كل ذلك، كي يظل المدين بالشراكة يتهرب من دفع ثمن الشراكة إلى شريكه اللبناني.
قبل يومين تكلم تييري رود لارسن، فانتعشت آمال «السياديين». الرجل عنوان الاستقلال وعنوان السيادة وعنوان القرار الحر، منذ زمن أوسلو حتى زمن الخلوات الاسكندينافية السرية. عادت النشوة إلى المفارقة نفسها: فريق لبنان أولاً، لا ينتعش إلا بغير اللبنانيين. أبشروا!