القاهرة | يبدو أنّ إبراهيم السيد (طنطا ـ 1983) قرر أن يأخذ مقعد منتج الفيديو في كتابه الجديد «أحد عشر كلباً» الصادر عن «دار ميريت» في القاهرة. الكتاب الذي حوى مجموعة من النصوص أقرب في شكلها إلى قصيدة النثر، يحتفي على طريقته الخاصة بالمعيش والمُنزوي في الحياة اليومية.مشهدية خاصة تجعل هذه النصوص أقرب إلى الشريط السينمائي غير المرتب. الصور البصرية هنا أشبه بالكولاج. الذات الشاعرة تجمع قصاصات ملونة وأخرى جافة من لحظات كانت فيها إما فاعلة أو بلا تأثير.
تبدو النوستالجيا في حالة انعقاد دائم. موتيفات من الحنين أشبه بترميم للذاكرة. ضمن هذه الحالة، يستدعي السيد أحد الأفلام التسعينية من الذاكرة الجمعية.

فيلم «آيس كريم في جليم» للمخرج خيري بشارة الذي لعب على ثيمة التمرد. وإن كان هذا الطريق لا يفضي إلى شيء، المهم أن نسلكه حتى النهاية. الأحلام هنا أشبهُ بشال أزرق يطوحه الهواءُ من سماء إلى أخرى: «أنسى المشي لأن قدمي اليمنى واهنة/ أقود دراجتي البخارية/ موسيقى «الجاز» ترن في أذني/ علب مليئة بأحلام ملونة تتكسر خلفي على الإسفلت/ المعادي لا تشبه نيويورك في يناير».
يضمّ ألبومه الأوّل ست
مقطوعات موسيقية

برغم بساطة الجمل الشعرية داخل النص، إلا إنه مليء بالألوان والكثافة البصرية. نصوصٌ أشبه بالموزاييك؛ حيث كل قطعة لها فرديتها الخاصة، لكنّ المحصلة النهائية لتلك الألوان يغلب عليها الشحوب والبرودة. إن الذات هنا تمارس وظيفتها كمنتج فيديو تجمع ملايين القصص المصورة من بئر الذاكرة أو الحياة اليومية لتضعها في قالب خاص، ولا تستنزف الحنين، كأن نقرأ: «كنت في الخامسة/خيوط زاهية الألوان تملأ الأرفف/ أمي الوفية لموديل المرأة الحديثة لمجلة حواء/تبحث عن بكرة خيط ماركة كفر الدوار/ثبت لونها عبر الزمن».
الحياة في الألفية أشبه بالعبثية المتحررة. لا شيء سوى خواء ومواد استهلاكية تُؤخذ من رفوف المتاجر لتعلق على جدران المعارض. محاولاتٌ مستمرة لاستنساخ وجه آندي وارهول بألوانه المتنافرة ولونه الفضي. الهوس بالجنس ليس إلا معادلاً لفراغ الحياة الحديثة كما يقول السيد، شأنه شأن الهوس بألعاب الفيديو والتسوق كأن التركيز هنا على التمادي في التعلق وليس الشيء ذاته: «العازف في الغرفة المجاورة/ يكتب عن صبيَّة آسيوية نحيلة وشاب مهووس بالبورنو».
الكتابة عن اليومي والمعيش تحتاج إلى ألق مفرداتها الخاصة. كتابة أشبه بالنص الإلكتروني المأخوذ من شبكات التواصل الاجتماعي. في نص ذكي عن نصائح للإقلاع عن التدخين، تتحرر اللغة من قيودها ويأتي الهاشتاغ و«التوترة» أشبه بصفعة داخل الجملة الشعرية، كأن نقرأ في متتالية بعنوان «#30»: «من الجيد أن تسكن جوار البحر/هكذا أسمع صوت السعادة واضحا في أذني/عربات اسعاف مسرعة/تحمل جثث الغرقى بلا ملل».
ثيمة الكلب هنا لا يُمكن فصلها عن جو النصوص العام. الكلاب التي تنبح في القصائد كعطب في الذاكرة، كملاحقة الجنس من زقاق إلى آخر، تختزل حالة اللهث وراء اللاشيء والأشياء المستهلكة. يقول السيد: « «أعود لمطبخي الصغير/ ألعب الشطرنج مع صديقي لاعب البانتوميم/ أقشر برتقالة/أحد عشر كلبا/تنبح أمامي/كعطب بسيط في الذاكرة».
في زاوية أخرى للنص، بدت الذات الشاعرة كأنها عنصر فاعل في العمل الثوري، لا مجرد راصدة. حاولت أن تعقد مشهدية موازية بين فاشية الخمسينات والوضع الحالي. التباساتٌ وشيجة بين ماء تسرب بين أصابع الماضي ونافورة حمراء تغطي الحاضر. يرى السيد أن هذه الالتباسات جاءت من ارتباك المشهد بين مفردات القومية الوطنية والطابور والعملاء والتجسس وشفرات الدمى وصفقات الأسلحة الروسية: «الفاشية التي نمت في المدارس تغزو الشوارع الآن/ السحالي تجوب الطرقات/ والدولة أشباح تضغط فوق أصابعنا النحيلة/ المارشات العسكرية تذكر بالخمسينيات السعيدة/ خدود شادية الوردية وميلودراما السينما المقتبسة عن غادة الكاميليا/ النسخ الجديدة شائهة والدبابات ومجنزرات أخرى/تحتل الشوارع».
ولأن الديوان يحتفي باللحظة الثورية، فقد جاءت أحد نصوصه على شكل روزنامة يومية تحاكي بياناتٍ ثورية: «خيوط الاتصال مقطوعة/ في الخلفية سيمفونية الرصاص الحي والخرطوش/ نكتب مانيفستو المولوتوف» ليتابع في مقطع آخر «فوق المنصة/ حيث النعوش فارغة/ والدماء تسيل فقط/ داخل مقاطع الفيديو».