يُقال إن «أبو وجيه» كان يضبط حركة السير على تقاطع بشارة الخوري بتفرعاته التسعة، أيام الحرب الأهلية اللبنانية. حتى إن أحداً من السائقين لم يجرؤ على تجاوز متر واحد من دون إشارةٍ منه، وإلا حطم جزءاً من السيارة بعصاه الغليظة. لكن الحرب أخذت طريق بشارة الخوري وأخذت معها «أبو وجيه». وإن كانت الحرب قد أخذت «الطريق» ومعها «أبو وجيه»، فإن «السِّلم» قبل أشهر قليلة، أخذ التقاطع الشهير الذي يربط شطري العاصمة بعضهما ببعض. بعد إنجاز النفق، لم يعد هناك أي اتصال جغرافي بين «الغربيّة» و«الشرقيّة».
وبالنسبة إلى كثيرين، لا يبدو هذا بريئاً. وإن كانت وظيفة الأنفاق والجسور لا تقتصر على حلّ أزمة السير، فإن الأبعاد المدينيّة لبناء «نفق» بين رأس النبع والسوديكو، ليست خافية على كثيرين.

«النفق مساحة عازلة»

بعد خمس سنوات من العمل، انتهى النفق، و«فصلوا الشرقية عن الغربية مجدداً، هكذا أرادوا بيروت في الأساس». لا نعرف من يقصد محمد، الذي واكب التغيرات في المنطقة منذ السبعينيات، عندما يقول «أرادوا»، لكنه يعقب: مناطق، كالبسطة والنبعة، لا يلتقي سكانها إلا نادراً بالطرف الآخر الذي يضم الشوارع المسيحية والآن بعد النفق ازداد الأمر صعوبة. ثمة أبعاد سوسيولوجية لوجود نفق في منطقة بشارة الخوري إذاً. النفق منطقة فاصلة، دخول في جوف الأرض، تجنباً للعبور فوقها.
ثمة أبعاد سوسيولوجية لوجود نفق في منطقة بشارة الخوري، النفق منطقة فاصلة


جار محمد يرى أن «القصة أكبر من هيك»، وتتعلق بـ«تفتيت هوية المنطقة وتركيبتها السكانية»

لا يهتم محمد إن كانت البلدية قد أنجزت النفق للحد من أزمة السير كخطة بديلة لمشاريع النقل الحضري... «عن أي حل للأزمة يتحدثون؟ هل يُعَدّ النفق، الذي استغرق إنجازه ما يقارب ست سنوات، حلاً لأزمة السير التي تزداد تعقيداً؟»، مضيفاً أن «الاختراع العظيم»، أي النفق، سنصفق له بحرارة «بعد أول شتوة». يخلص محمد إلى أن بلدية بيروت «وما فيها من زمرة مقربة من السياسيين في البلد» هم المستفيدون من المشروع، وأن «النفق سيزيد حتماً الشرخ الاجتماعي الموجود بين أبناء الشرقية والغربية على المدى البعيد».
كأن نفق بشارة الخوري صُمم ليعيد إلى ذاكرة أبناء المنطقة مآسي الحرب. النفق مساحة عازلة. وفي أية حال ما زالت آثار الحرب زاخرة في ما بقي من المباني المتصدعة. لتلك المباني قصص، خُتمت إحداها بعملية هدم طاولت عقاراً قديماً في بشارة الخوري، قبيل تنفيذ المشروع. لكن جار محمد يرى أن «القصة أكبر من هيك»، وتتعلق بـ«تفتيت هوية المنطقة وتركيبتها السكانية». يرى رائد أن النفق لن يحدّ من أزمة السير على المدى البعيد، لكنه في المقابل سيؤدي إلى شلّ حركة السير في النبعة والبسطة والمصيطبة، وصولاً إلى الخندق الغميق والأحياء الصغيرة المتاخمة له، وذلك لأن التصميم الهندسي للنفق يسهم في استقطاب العدد الأكبر من الوافدين إلى قلب العاصمة، عوضاً عن سلوك الطرق الفرعية. وهنا، يستحضر الأخير وجهة نظر جاره في ما يتعلق بفصل «البيروتَين»، يقول إن استخدام مصطلحي «الشرقية» و«الغربية» ما زال سارياً، ما يعني أن رواسب الحرب، وإن خَفَت صوت الرصاص، وعلا بدلاً منه صخب الحداثة، «لم تنته يوماً»، مؤكداً أن طريق بشارة الخوري «الاستراتيجي» وظّف لأغراض سياسيّة وتجارية بحتة. يتحدث عن أشخاص «نافذين وأصحاب مصالح».
«ابن البسطا» ما زال يذكر كيف عُزلت الأشرفية عن المناطق «المحسوبة على منطقتنا» بفعل رصاص القنص، والحال أن «المشهد اليوم لم يتبدل على نحو كبير»، حتى وإن تخلت أسطح المباني عن قناصيها، وذلك لأن النفق أسهم، على مدى الأعوام الخمس المنصرمة وإزاء أعمال الجرف، في التخفيف من وطأة الزائرين من الجهة «الشرقيّة». وفي المحصلة «المسيحي شو بدو يجي يعمل بالغربية بعد؟ يتبضع؟»؛ «الداون تاون» «وبيروت سوكس» أصبحتا أقرب. يلمّح هنا، إلى «أصحاب المصالح الكبيرة».

اختفاء الزبائن «المرتّبين»

فقد محل الثريات الشهير المحاذي لفروج «شميطلي» الكثير من زبائن الأشرفية «المرتبين». والسائد هنا أن «الترتيب»، بمعناه اللبناني «الطبقي»، يرتبط بسكان الأشرفية وحسب. فيشرح صاحب المحل أنهم «ناس دفيعة». حسناً، يبدو أن لـ«الترتيب» معايير «أسمى» من المعنى اللفظي للكلمة. في أية حال، زبائن سوق الجملة لم يبحثوا عن بديل بعد تعذر الوصول إلى المحل بسبب قطع الطرقات، فالمحل يعد الموزع الأول في المنطقة، وهذا ما كان يعزي «محب المرتبين» في بعض الأوقات. لكن صاحب محلات «كوثراني» للسجاد والتحف بدا أكثر تأثراً من جاره، فتحدث طويلاً عن الخسائر المادية التي تكبدها المحل خلال أعوام الجرف، مؤكداً أن «أحداً لم يقدم لنا تعويضات مالية». قبل عامين، قطعت الطرقات المؤدية إلى جسر البسطا من الاتجاهين، «ومعها انقطعت الأرزاق». بات على الراغبين في زيارة المصيطبة وزقاق البلاط أن يكملوا سيرهم نحو ساحة الشهداء ليسلكوا بعدها طريق وزارة المالية (متفرع من الخندق الغميق) ومن ثمّ نحو جسر البسطا، ومنه إلى «الغربيّة». والمصطلح الأخير يتكرر كثيراً. «الزبون لن يتحمل مشقة الالتفاف حول المدينة وسيبحث عن بديل لنا بطبيعة الحال». وبالنسبة إلى وعود بلدية بيروت، يضيف أنه جرى التعويض على محلات معينة فقط، أبرزها «شكري حماصني» ومحلات «وهبة» للدواليب. اسألوا رمضان «هيدا تبع الويسترن يونيون» كان أول القابضين، «وخليه ينكر». وهذا ما حدث. رمضان نفى بشكل قاطع أن يكون قد تلقى «فلساً واحداً» من البلدية، لكنه أكد أن الأخيرة، حين شرعت بعمليات الجرف، أرسلت وفداً لتوثيق الخسائر «وصار في حكي عن تعويضات، بس ما شفنا شي». سرعان ما تبدلت ملامحه، فبادر إلى «تغيير الموضوع»، وأشار إلى أن شارع «مونو» كان المستفيد الأوحد من أعمال الجرف، بعد «تحويلة» بشارة الخوري - السوديكو التي استقطبت الجزء الأكبر من الوافدين إلى العاصمة. في السنوات الأخيرة افتتحت محال عدة، آخرها صالون حلاقة للرجال في مبنى يعود بناؤه إلى أوائل القرن الماضي. وحين سُئل صاحب المحل عن بدل الإيجار، أكد أنه لا يدفع فلساً واحداً، لأن المبنى «ملك خاص وعليه مشاكل». مبنى كبير، يُقال إن ملكيته تعود إلى رجل معروف، رجلُ يُدعى أسامة بن لادن.