غالباً ما تبدو صور بيروت من الجو جميلة. في الواقع، كل صورة من الجو، الى حد بعيد، تبدو جميلة. والناس، عموماً، يحبون تصوير المدن من فوق. مغرٍ الارتقاء إلى الأعلى، لالتقاط مدينة بكليّتها. من الطائرة مثلاً، تبدو كثير من المدن جميلة. ومنها بيروت، لكن ليس للجميع. فعماد الدين رائف، كتب ذات يوم أن حي السلم من الطائرة يبدو «مثل القبر يا شيخ»، كتلة اسمنتية واحدة. بلاطة ضريح. هذا بسبب الاكتظاظ السكاني، الذي يحجب التفاصيل، فتبدو في كليّتها، كتلة واحدة صلفة.
أيضاً بسبب الاكتظاظ، حينما تسير في شوارع مخنوقة بالبشر، لا ترى شيئاً سوى رؤوس الناس وأكتافهم. وحتى حينما تنظر إلى الأعلى، لا ترى السماء. ترى الاسمنت، وشبكات متشابكة من أسلاك الكهرباء العشوائية التي تحول بين الناس والسماء. تمرين كهذا، أعني النظر إلى السماء، يعد ترفاً في أحزمة الاكتظاظ والبؤس. لكنه متاح، في قلب المدينة إلى حد ما.
مبنى «ستراند»
يبدو مثل قفص خضرة وواجهته كلها مسجونة بالحديد


كثيرون لا ينتبهون إلى وجود فندق فوق المحل الذي كان الويمبي


في الحمرا، المكتظة أيضاً، لا يزال النظر إلى أعلى ممكناً. ليس هناك الكثير من الحواجز بين أسفل وأعلى. لكن المسألة تحتاج إلى قرار. قليلون من يفعلون ذلك. معظم الناس يسيرون، وينظرون في الأرض، أو أمامهم مباشرة، أو يتلفتون يميناً ويساراً لإلقاء نظرة على واجهة محل هنا، أو على رواد مقهى هناك. وحدهم الشحاذون يرفعون رؤوسهم إلى أعلى حينما يستجدون من الله ومن مخلوقاته صدقات لم تنزل يوماً من السماء. النظر إلى أعلى يحتاج إلى قرار، ويحتاج إلى وقت لرؤية النصف الآخر من بيروت. النصف المدفون في الأعلى، والذي لا يلتفت إليه أحد. يقال إن تحت بيروت هذا يوجد مدينة مدفونة. وهذا تاريخياً صحيح، ولا يمكن رؤية تلك المدينة إلا بإجراء حفريات في الأرض للوصول إليها. أما المدينة المدفونة في الأعلى، فلا تحتاج إلا إلى رفع رؤوسنا إلى أعلى، وحفرها بنظراتنا الثاقبة، لنعثر على كنوز تشبه تلك الكنوز المدفونة تحت الأرض، مذهبة بالزمن المتراكم غباراً يغطيها.
في الحمرا، إذا قررت ونظرت إلى أعلى، وحفرت بنظرتك الغبار، سترى ماضياً من العمارة العشوائية الجميلة. عمارات مبنية على طرازات من الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، تحافظ على طابعها المعماري، وتبدو مهجورة تماماً. في الأعلى، مكاتب فارغة، وشرفات رحبة لم يطأها أحد منذ أعوام طويلة، ونوافذ كثيرة أغلقت على العتمة والصدى. في الأعلى، أشكال هندسية غريبة على الطابع العصري. مبنى «ستراند» مثلاً، يبدو مثل قفص خضرة كبير. واجهته كلها مسجونة بالحديد، ولا نعرف ماذا هناك في الداخل، لكن النظرة إلى فوق، إلى هذا المبنى، الذي تركن تحته مطاعم ومحال تجارية حديثة، بديكور حديث، تصيب صاحبها بانفصام بصري.
التحديث طال مستوى نظرنا، طال الأرض والأرصفة، طال الواجهات، وأمكنة ركن السيارات. لكنه لم يرتفع إلى فوق. في الأعلى بقي كل شيء على حاله. مكان مقهى الويمبي مثلاً، فتح محل حديث للألبسة الجاهزة. ديكوره مفرط في الحداثة (إذا جاز الاستخدام)، ويعلوه فندق قديم، لا يزال يحافظ على «أصالته» المعمارية. يمكن القول إن كثيرين لا ينتبهون إلى وجود فندق في تلك النقطة، فوق ذلك المحل، الذي حل مكان الويمبي. كذلك الأمر بالنسبة إلى ذلك المبنى الأزرق العتيق، الذي يبدو كأنه من مدينة أخرى، أو من مكان آخر، والذي يقع في منتصف الشارع الرئيسي للحمرا. من منكم ومنكن، وقف أمامه، ورفع نظراته، وعلّقها دقائق عليه؟ حدثني الصديق مروان طحطح ونحن نقوم بجولة في الحمرا، في الطبقة العليا منها تحديداً، أنه كان يمر يومياً أمام مبنى رائع هناك، من دون أن ينظر إليه. كان يمر من تحته، وينظر إلى واجهات المحال المزدانة تحته، من دون أن يخطر له ولو لمرة واحدة أن يرفع نظره إلى الأعلى. حينما فعل ذلك، انتبه إلى الظلم الذي نلحقه بالمدينة المدفونة في مقبرة السماء. أمثلة كثيرة يمكن ذكرها من خلال جولة قصيرة في الحمرا، فهنا بناء قديم نبتت فيه شجرة، وهنا بناء مهجور يبدو كما لو أنه مصيف قديم في عاليه او بحمدون، وهنا إعلان فوق دار سينما مقفلة من التسعينيّات لحفل لمحمد منير، وهنا مبنى مهجور بالكامل تعرش فيه النباتات والعتمة... لا ناطحات سحاب في الحمرا.
الغيم بعيد، والأبنية قريبة. لكن العيون لا تنظر إلى أعلى. ليس لديها وقت للأعلى. معظم العيون مستعجلة، حائرة، وملتصقة بالإسفلت. الزمن أيضاً، في الحمرا يسير على مستوى الإسفلت. الأعلى المسكون والذي تدب فيه الحياة، هو الأعلى الذي بني حديثاً، بعدما جرى نسف القديم عن بكرة أبيه. أما ما بقي من القديم وهو كثير، فبقي منفصماً، مستسلماً في قاعدته الأرضية للتحديث، عصياً عليه في الطبقات العليا، لأسباب يصعب تبيانها وتحليلها. لكن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة. توقفوا لبرهة، هناك، في الشارع الطويل، وانظروا إلى الأعلى. إلى المتحف العلوي، في حجارة الأبنية القديمة، وفي الشرفات والنوافذ، وتأملوا إله الزمن، في جلوسه الأبدي على عرش الغبار...