لم يعد اسم إيلان بابيه (1954) مجهولاً لمناصري القضية الفلسطينية في العالم. المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي المنشق، كان في طليعة المعادين للرواية الإسرائيلية الرسمية عن «أرض الميعاد»، وأحد أبرز «المؤرخين الجدد لما بعد الصهيونية». كتابه الشهير «التطهير العرقي في فلسطين» كان وثيقة دامغة في فضح الممارسات الصهيونية ضد الفلسطينيين، بناء على وقائع مسجّلة، كان أرشيف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قد أفرج عنها جزئياً، في ما يتعلّق بأحداث 1948 التي أدت إلى تهجير وإبادة سكان مئات القرى والمدن الفلسطينية.

وفي كتابه «خارج الإطار: القمع الأكاديمي والفكري في إسرائيل» الذي صدر عام 2010 وانتقل أخيراً إلى المكتبة العربية عن «دار قدمس» (ترجمة مها حسن بحبوح)، يفضح ممارسات المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية ضد كل من يميط اللثام عن حقيقة الأيديولوجيا الصهيونية التي سعت إلى تعميم رواية مزيّفة وملفّقة عن النكبة الفلسطينية، وكان هو أحد ضحايا هذه الأيديولوجيا بامتياز.
بدأت صحوة هذا الأكاديمي متأخرة إلى حدٍ ما. لم تتح له نشأته في عائلة ألمانية يهودية ترى في رواية تيودور هرتسل للأرض القديمة الجديدة أيقونةً مقدّسة، وعقيدة راسخة. كلمة «نكبة»، التي سمعها للمرة الأولى من طلاب فلسطينيين خلال دراسته المرحلة الثانوية في حيفا، قوّضت دعائم فكرته عن نشأة إسرائيل، ليكتشف بأن هذا الكيان ما هو إلا صورة أخرى من الاستعمار الاستيطاني، وأنّ الحلم الصهيوني كان كابوساً للفلسطينيين.
من هنا بدأت المواجهة والوعي المضاد. تعلّم العربية الفصحى واختار دراسة تاريخ الشرق الأوسط في «جامعة القدس»، قبل أن يغادر إلى «جامعة أكسفورد» في بريطانيا (1979). هكذا بدأ الجدار الصهيوني الصلب الذي كان يتكئ إليه بالتفكك، إثر تعمّقه في دراسة حرب 1948 التي اختارها موضوعاً لنيل درجة الدكتوراه تحت إشراف ألبرت حوراني وروجر ألن. من خلالهما،
تحوّل الإعلام إلى أداة طيّعة تحت إمرة الجيش
تعرّف إلى القصة من منظور آخر، ينسف الأساطير والفبركة في النسخة الأولى التي «كنت أتعاطف معها منذ الطفولة». يروي بابيه أن حدسه قد دفعه إلى اختيار المنظور البريطاني في رحلته المعاكسة إلى عام 1948، مفترضاً الحياد في السجلات التي سيغرق في فحصها وفك مغاليقها. لكنه سيكتشف خطل حدسه، إذ تنطوي هذه السجلات على وقائع أخرى تضع مصالح الإمبراطورية البريطانية فوق كل اعتبار، كما أنها مناوئة لحقوق الفلسطينيين. في الأطروحة التي تحمل عنوان «بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي»، أطاح الباحث الإسرائيلي زيف الأساطير الإسرائيلية في ما يتعلّق بعداء بريطانيا للصهيونية. وفقاً للسجلّات، قامت بريطانيا بدورٍ أساس في السماح للحركة الصهيونية بتأسيس دولة في فلسطين عبر إجراء تطهير عرقي للتخلّص من سكانها الأصليين. في مرحلةٍ لاحقة، سيتخلى عنه زملاؤه من «المؤرخين الجدد»، تبعاً لعلوّ صوته في فضح الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وستنتقل الحرب المضادة داخل أسوار الجامعة وبين صفوف النخبة. ذلك أن «إنكار النكبة»، وإقصاء الفلسطينيين تماماً من الخطاب الأكاديمي المحلي، باتا ظاهرة واضحة، ولو طرأ عليها تحسّن طفيف إثر الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، عبر إدخال التاريخ الفلسطيني ضمن الموضوعات المعترف بها في الدراسات الشرق أوسطية. كما تجرأت بعض الصحف الإسرائيلية على الاعتراف برواية مضادة لاصهيونية لحرب 1948، سرعان ما طويت لمصلحة أحداث أكثر إلحاحاً. عدا أبحاثه الأكاديمية، استمر بابيه في الكتابة للصحف، مغرّداً خارج السرب، ما جعله «هدفاً لرسائل الكراهية وللتهديدات بالقتل عبر البريد الإلكتروني والبريد العادي، ثم بدأت المكالمات الهاتفية المجهولة المصدر». الخطوة الثانية في الحرب المضادة، كانت وجهاً لوجه، حين أعلن البروفسور بواف غيلبرت خلال مؤتمر حول «التاريخ الجديد» في «جامعة حيفا» أن تبنّي الرواية الفلسطينية هو بمثابة «الخيانة في ميدان القتال»، وانضم إليه لاحقاً زملاؤه في «جامعة حيفا». كانوا يتحاشون الحديث معه، فاضطر إلى الالتحاق بالحزب الشيوعي الاشتراكي، لوضع حد للتعليقات المزعجة، وبذلك أصبح رسمياً خارج المعسكر الصهيوني، ما يتيح له العمل في فضاء أوسع. في الفترة نفسها (1993)، اختلط مع علماء اجتماع إسرائيليين أنتجوا أبحاثاً معمّقة للعقيدة الصهيونية باعتبارها حركة كولونيالية منذ بداياتها الأولى، و»كشفاً للأصول التاريخية للروح العسكرية، وتحديّاً للافتراض القائل بأن الصهيونية تبنَّت الحركة النسوية»، بالإضافة إلى مسائل تتعلّق بالموقف من المحرقة، والسياسة المنتهجة حيال اليهود القادمين من الدول العربية (المزراحيم). سيستعيد الجدل حول الماضي حيويته في منتصف التسعينيات، تزامناً مع الاحتفال بالذكرى الخمسين لإنشاء دولة إسرائيل. فقد وجدت الدراسات الناقدة للصهيونية طريقها إلى الوسائل الثقافية الأكثر شعبية، وخصوصاً بعد عرض السلسلة الوثائقية «الانبعاث» على شاشة التلفزيون الرسمي. هذه السلسلة كانت بمثابة «إعادة تقويم للماضي». كما كانت كتابات ادوارد سعيد حول السلطة والمعرفة، والرواية والأمة، مصدر إلهام لمجموعة من الباحثين الإسرائيليين والفلسطينيين، في مناقشة فكرة رواية ترضي الطرفين. لكن اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، والعنف الإسرائيلي، أسكتا الأوساط الناقدة في الوسط الأكاديمي لمصلحة عسكرة العقل الصهيوني. وهنا يكشف إيلان الجزء الأخطر من معركته ضد الخطاب الصهيوني، أو «هوية الأمة المسلّحة»، إذ تحوّل الإعلام إلى أداة طيّعة تحت إمرة الجيش، أو ما يسميه «عسكرة الإعلام»، وتعويم أساطير جديدة حول الصراع العربي – الإسرائيلي، واستخدام لغة التحريض عبر نزع الطابع الإنساني عن الفلسطينيين، على أيدي جنرالات سابقين بوصفهم خبراء ومحللين سياسيين. في المقابل، صمت الأكاديميون و»المفكرون المخصيون»، و»دعاة السلام» المدجنون، أو انخرطوا في الفضاء العام. أما إيلان نفسه، فوُضع في «خانة المنبوذين» وفقاً لما يقوله في سياق سيرته الشخصية. مع ذلك، لم تتمكّن إسرائيل من محو «النكبة» من الأذهان، وبات إنكارها أمراً أكثر صعوبة نظراً إلى تفتّح الوعي العالمي على المأساة الفلسطينية، بالتوازي مع إصدارات أكاديمية في الغرب حول تاريخ فلسطين، بينها ما كتبه هذا الأكاديمي الملعون بعنوان «تاريخ فلسطين الحديث، بلاد واحدة، شعبان» (2003) فاضحاً تاريخية الاحتلال، بمواكبة لحظة راهنة هي قتل العشرات في مخيم جنين (2000)، فكان أن وجد نفسه حيال معركة جديدة: «لم أكن مسلحاً بما يكفي لخوض مواجهة وشيكة» يقول. خلال تدريسه في «جامعة حيفا»، كان إيلان قد أشرف على أطروحة تتعلق بالوثائق التاريخية في كيبوتز ماغال على بعد أميال من حيفا، تقدم بها تدي كتس. وقد اكتشف الأخير، تبعاً للوثائق أن هذا الكيبوتز قد بُني على أنقاض قرية عربية.
كما خصص فصلاً عن احتلال قرية الطنطورة وقتل 20 شخصاً بعد استسلامهم. اكتشاف أحد الصحافيين الاستقصائيين للأطروحة بعد عقدين على إنجازها، فتح النار مجدداً على صاحبها، وملاحقته قضائياً، في ما سمّي «قضية كتس» التي ستسبب بطرد إيلان من الجامعة (2007)، بعد نشره وثائق إضافية عن مذبحة الطنطورة، واضطراره أخيراً إلى مغادرة البلاد إلى بريطانيا، تحت وطأة مضايقات لا تنتهي.