من يراقب الوضع العربي الراهن، فلا بد له من ملاحظة هذا الانهيار الكبير في بنى المجتمعات القطرية والإقليمية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فما يجري حالياً، من غلبة القوى الظلامية التكفيرية وسيطرتها على مفاعيل الأحداث وتهديدها للمجتمعات وسيرورتها في حياتها ومعيشتها وتطورها، إنما يشير إلى غموض وخوف كبيرين على مستقبل هذه الشعوب ومصيرها.

فدورات العنف تغمر معظم أرجاء الأوطان والدول مغرباً ومشرقاً، وتجعل من الاستقرار والطمأنينة حلماً لغالبية الناس صغاراً وكباراً، هذا في الوقت الذي تظلل فيه أعلام وشعارات «الدولة الإسلامية» وغيرها من التنظيمات المذهبية التكفيرية مناطق ونشاطات سياسية وعسكرية متعددة ومتنوعة. فمعظم التحركات السياسية الراهنة تدور حول مخاطر ما أنتجه حراك هذا التيار التكفيري التنظيمي من تجمعات واحتلالات وحروب منتشرة في مناطق وبقاع مختلفة من وطننا العربي.
على كل القوى الدينية المعتدلة أداء دور إنقاذي

ويتلاقى هذا النشاط والحراك مع ما كان قد أنتجه تنظيم «القاعدة» في تسعينيات القرن الماضي، وأصبح حالياً مكملاً له وملتصقاً بأجوائه ومناخاته ومتناقساً معه. كل هذا ما كان له أن يتأسس وينتشر ويتمدد، لولا جملة التحولات والخطايا والهزائم الكبرى التي أحاطت بنشاط ووجود القوى السياسية والاجتماعية التي كانت محور الحراك السياسي السابق، وأعني هنا، قوى اليسار والأنظمة التي اصطلح على تسميتها «الليبرالية والتقدمية والديمقراطية» وحتى تلك المحافظة... ما أهدف إلى ملاحظته هنا، هو وضع القوى اليسارية، في تلك الآونة، وتطورها اللاحق، وصولاً إلى هزيمتها التي كان لها الأثر السلبي الكبير في مستقبل العمل السياسي والاجتماعي برمته. إن هذه الهزيمة التي لحقت بهذا التيار السياسي أسهمت، عملياً، في رفع وتيرة نشاط القوى المذهبية والطائفية والتكفيرية ووصولها إلى مستويات متقدمة من ولاء الجماهير لمنطقها ومسارها. قبل عام 1979، لم تكن القوى الطائفية الوطنية والحركات الإسلامية في لبنان تمثل على أرض ما اصطلح على تسميته المناطق المحررة من الوجود الانعزالي الطائفي المسيحي قوة جماهيرية خاصة في الجنوب اللبناني.
كذلك في طرابلس والشمال، كانت الجماعة الإسلامية والقوى الإسلامية الأخرى محدودة التأثير وذات وجود متواضع. لكن مع نجاح ثورة إيران الإسلامية في شباط (فبراير) 1979 بدأ الوضع يتغير وجاء تغيره متدرجاً ومتعثراً، ولم يأت كموجة طاغية وحاسمة كما حصل في طهران وغيرها من المدن الإيرانية. ويمكننا رصد هذا التحول والتغيير تبعاً للأخطاء والصدمات والكبائر السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي قام بها ونفذها التحالف الفلسطيني ــــ اللبناني تحت خيمة الصراع مع الشرعيتين الإقليمية واللبنانية.
في مطلع السبعينيات وسنوات الحرب الأهلية اللبنانية الأولى كان اليسار في الجنوب اللبناني، مثلاً، متفوقاً على غيره من القوى بشكل كاسح. لكن ما حصل إثر ذلك، وكان متوقعاً، هو انتقال هذا التأييد إلى خانة السلبية وانحساره بسرعة مطّردة تحت وطأة الممارسة الخاطئة، والخط السياسي الإلحاقي الرجراج والمدمر، وتغليب المصالح الشخصية والذاتية والرضوخ لتجاوزات المقاومة الفلسطينية وخطاياها والسلاح وشهوة المال إلخ... في الوقت الذي كانت فيه القوى الطائفية إسلامية ومسيحية تجهد بدأب وتنظيم مستفيدة من هذا الواقع الشيء الضاغط على الناس للحلول مكان هذه القوى وإجلاء جماهيرها عنها. كان التجييش ضد تصرفات المقاومين الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين قد بلغ مداه الأقصى وآذنت ساعة العد العكسي. وبسرعة بدأ تأييد الناس للمقاومة واليسار ينحسر ويتناقص والخسارة تكبر وتتعاظم.

مفصل الاجتياح الإسرائيلي

كانت القوى اليسارية والوطنية الإسلامية والمقاومة الفلسطينية قد تلقت في منعطف الصيف الدامي عام 1982، وهو زمن غزو إسرائيل للبنان واحتلالها بيروت لزمن قصير وبدء المقاومة ضدها، ضربة قاسية أشارت إلى بدء مرحلة جديدة عنوانها الهزيمة والانكفاء. وكان لتشكيل حزب الله اللبناني، بعيد هذا الغزو، وبروزه الأولي خلال الصدامات التي جرت مع المحتل في أماكن عدة حول العاصمة بيروت، أثره البعيد على تنامي الأصوليين المسلمين، والشيعة خصوصاً. غير أن هذا الحزب استطاع خلال مسيرته اللاحقة من تطوير عمله باتجاه مقاومة إسرائيل وحشد قوى متنوعة سياسية وطنية ودينية داعمة له ووسع مداه الوطني، مستنداً إلى دعم تلقاه من إيران وسوريا، وتسلمه قيادة مرحلة تاريخية عنوانها تحرير أرض واسعة من الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي. لم تستطع قيادة اليسار التي قطفت ثمار تجربتها السلبية الحفاظ على وحدة فصائلها، فتشرذمت وفقدت بوصلة الرؤية السياسية لإبراز خطة سياسية ونضالية متكاملة. في هذا المفصل، تمكن حزب الله ومعه بعض القوى الدينية الإسلامية السنية من مقاتلة الإسرائيلي وصولاً إلى الانسحاب الإسرائيلي في أيار عام 2000، ولم يتمكن الشيوعيون ومعهم قوى يسارية وقومية متفرقة من الاستمرار في العمل المقاوم لأسباب أبرزها ذاتية قبل أن تكون موضوعية. إن صعود نجم «حزب الله» في الثمانينيات وقيادته العمل المقاوم، ضد إسرائيل في الجنوب اللبناني، أدى إلى هيمنته شبه التامة على الساحة القتالية، ما استتبع حكماً تصاعد نفوذه السياسي والجماهيري. وقد أدى الانكفاء اليساري (الشيوعي خصوصاً) عن ساحة المقاومة، إضافة إلى بدء تشكل الحالة السياسية المستجدة في ما تلا اتفاق الطائف وعدم تمكن الشيوعيين بسبب تراجع نفوذهم وتشرذمهم وعدم وضوح خطهم السياسي وتقاعسهم عن تحديد حلفاء فعليين لهم، من حفر مكان لهم مميز على خريطة القوى السياسية النافذة أو الحاكمة أو المعارضة إلى تحولهم إلى فصيل غير فاعل كما العديد من الفصائل والقوى الموجودة على الأرض اللبنانية.
لقد كان لهذا الانكفاء والضعف والتشرذم والالتحاق السياسي أثره الضار على حركة التجديد البنيوي في مفاصل الحركة الجماهيرية اللبنانية. وهذا ما نلحظه، راهناً إزاء تفاقم الحالة المذهبية واندفاعه القوى التكفيرية في لعبة تفتيت البلاد والعباد وشرذمتها.
قد يبدو منشوداً في هذه الآونة، رغم ضعف هذا اليسار وتشرذمه، الاحتشاد مجدداً بمجموعات وأفراد لأداء دور تجميعي لاختلاف القوى السياسية اللبنانية دينية وغير دينية تحت شعار إنقاذي من خطر التكفيريين من «دواعش ونصرة» وغيرهم.
ولا بد في هذا المجال أيضاً، من الأخذ بالاعتبار، ولحظ دور للقوى الشبابية المدنية يسارية وليبرالية وديمقراطية كي تسهم بنشاط وتنظيم في معركة مقاومة هذا الخطر الظلامي الداهم. كذلك إن مسؤولية قوى النظام اللبناني، رغم تهالكها السلطوي، كبيرة لفسح المجال لكل هذه القوى من الاحتشاد والتجمع لدرء مخاطر الفتنة الطائفية التي يسعى إليها التكفيريون... أما الوسائل، فهي مسؤولية من بيدهم مقاليد الأمور من قوى في السلطة وخارج السلطة... إن ساعة الحقيقة قد دنت، وعلى كل القوى الدينية المعتدلة أداء دور إنقاذي، وهذا ما بدأنا نلحظه عبر سير عمل الحكومة الهجينة في تركيبتها، الإنقاذية في دورها الراهن المنشود ضد الفتنة لإدارة معركة الجيش الوطني في هذه المعركة المصيرية.
* كاتب لبناني