وجد شيلدون أدلسون، الملياردير الصهيوني المتطرّف، الكنز في شبه جزيرة ماكاو الصينية، فمنذ أن بدأ الاستثمار فيها عام 2004 عبر إنشاء كازينو "ماكاو ساندز" تمكّن من مضاعفة ثروته - الهائلة أصلاً. وأدلسون هذا على علاقة وطيدة بالكيان الاسرائيلي، فبحسب تقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست» منذ مدّة، يغدق أدلسون الأموال لدعم وسائل إعلام العدوّ، اضافة الى تبرعاته الضخمة في خدمة قضايا صهيونية وسياسيين موالين لاسرائيل؛ فهو يملك أساساً صحيفة «إسرائيل هايوم» ويحاول الاستحواذ على وسائل إعلامية أخرى.

وليس ادلسون وحده من وجد كنزه الدفين في ماكاو، اذ إن الحكومة المحلية فتحت باب الاستثمار للأجانب منذ عام 2001، فمنحت امتيازات تنتهي صلاحيتها عام 2020 لثلاث شركات كبرى لبناء كازينوهات ومنتجعات في شبه الجزيرة، أولاها شركة SJM، وشركة «وين ريزورتز»، وأخيراً شركة «غالاكسي انترتاينمت غروب». وهذه الشركات تملك أيضاً صلاحية اعطاء امتياز لشركات أخرى. فأين يقبع كنز ماكاو، وما سرّها؟
ببساطة، ماكاو هي "لاس فيغاس" الصين، لا بل هي تتفوق على لاس فيغاس نفسها من حيث الحجم والنجاح، فألعاب القمار فيها قانونية، ويقوم اقتصاد شبه الجزيرة كلّه على الكازينوهات والسياحة، التي تمثّل عمودها الفقري، وتؤمن فرص عمل لسكانها، وتسمح لهم بالتمتع بمستوى حياة مرتفع. وفي وقت شهدت فيه لاس فيغاس تراجعاً في أرباحها وعدد زوارها بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، حافظت ماكاو على مكانتها في سياحة الألعاب، وبقيت تستقبل أعدادها المعهودة، والمتزايدة، من الزوار المحملين بالمال.

الألعاب في ماكاو بين الماضي والحاضر

لم يكن من القانوني لعب القمار وإنشاء الكازينوهات في ماكاو، ولكنه كان أمراً واقعاً منذ أن كانت شبه الجزيرة مستعمرة برتغالية في عام 1740. ابتدأت صناعة القمار فيها، إذاً، منذ زمن بعيد، سيطرت خلاله «المافيا» على أعمال الكازينوهات، وطغى عليها طابع المصلحة والفساد، وتحوّلت بذلك إلى مصدر لنشر الفوضى والجريمة بكلّ أشكالها في المنطقة، حتى عام 1931 حين شُرّعت هذه الألعاب وأصبح من الممكن ممارستها على نحو قانوني، أي عبر منح ترخيص للشركات للاستثمار في ماكاو، لكن، حتى عام 2001، كانت جهة واحدة تحتكر سوق الكازينوهات، وقد تنقّلت الدفة خلال هذه الفترة بين ثلاث شركات مختلفة، ولم يكن من المسموح به إعطاء تراخيص لشركات أجنبية. «بعد تحرير الألعاب عام 2001، ارتفع عدد السياح الوافدين إلى ماكاو ارتفاعاً كبيرا. ففي عام 2013 وصل إلى ماكاو ثلاثون مليون سائح، 60% منهم من الصين وحدها. هذا الارتفاع الضخم في عدد الوافدين أدّى إلى رفع الطلب على الخدمات، ما حسّن الوضع المعيشي كثيراً في شبه الجزيرة"، بحسب ما يقول لـ«الأخبار» البروفسور كارلوس سيو لام، وهو الأستاذ في مركز البحوث والألعاب التعليمية، معهد البوليتكنيك في ماكاو. والسبب الرئيسي لكون أغلبية السياح الوافدين إلى ماكاو صينيين، هو أنّ هؤلاء لا يتمتعون بإمكان لعب القمار في بلدهم، حيث إنه غير قانوني هناك، وهم ولسوء الحظّ من المحبين له، فيلجأون إلى ماكاو لذلك. إذاً، ماكاو لا وجود لها من دون الكازينوهات، وهي وإن كانت منطقة إدارية خاصة تابعة للصين - أي مثل هونغ كونغ - فإنها لا تحمل أي اهمية سياسية فعلية، بل إن قيمتها سياحية بحتة لكونها مركزاً «شرعياً» لألعاب القمار، ودورها هذا أدّى بطبيعة الحال إلى تبدّلات اجتماعية واضحة في شبه الجزيرة الصينية على مدى أعوام.
يوضح البروفسور سيو لام لـ«الأخبار» أنّه «قبل أن يصبح لشركات أجنبية امتيازات في ماكاو، كان السياح من هونغ كونغ وتايوان يتبعون طريقة حياة وعادات مماثلة لسكان ماكاو المحليين، وكان من السهل تلبية احتياجات هؤلاء الوافدين، ولكن، بما أنّ الصين بلد كبير، فإن عادات وتقاليد سكان الشمال مختلفة عن عادات وتقاليد سكان الجنوب، وبالتالي فإن القائمين على أعمال الكازينوهات في ماكاو باتوا يحتاجون إلى الوقت لاعتياد التعامل مع الوافدين من البر الرئيسي الصيني». من التحديات البارزة حالياً بحسب البروفسور سيو لام أنّ التشريعات المحلية لا تسمح لغير السكان المحليين بالعمل كتجار للكازينوهات، وغالباً ما لا يتمتع هؤلاء بالشخصية الملائمة لمثل هذا العمل، لأنّهم «عاطفيون» و«غير قادرين على ضبط أعصابهم» في عمل يحتاج إلى كثيرٍ من ضبط الأعصاب.

السياسة في ماكاو

عادت ماكاو إلى السيطرة الصينية في أواخر التسعينيات بعدما كانت مستعمرة برتغالية، ومنذ ذلك الحين لم يتداول الحكم فيها سوى رئيسين، أوّلهما أدموند هو، وثانيهما- وهو رئيسها الحاليّ- فرناند شوي. والرئيس تنتخبه لجنة مشتركة بين الصين وماكاو، مؤلفة من أربعمئة سياسي ورجل أعمال. كذلك، لا يزيد عدد سكان ماكاو على الـ600 ألف نسمة، ومساحتها 23.8 كلم مربع، واقتصادها قائم على الكازينوهات وسياحة الألعاب، كما لم تشهد ماكاو أي حراك سياسي طوال هذه المدّة، حتى آب الماضي، حيث جاب شوارعها حوالى ألف عامل من عمال الكازينوهات في مسيرة من كازينو «ماكاو ساندز» إلى المقرّ الحكومي. فما كانت مطالبهم وما مصيرها؟
يريد هؤلاء رفع رواتبهم ومنع بعض الأجانب من حيازة مراكز في الكازينوهات، فبالنسبة إليهم أصبحت ثروة ماكاو كبيرة جدّاً، وهم يرون أن لهم الحقّ في أن ينالوا قسطاً من هذه الثروة. تلت تلك الاحتجاجات محاولة فاشلة لاجراء استفتاء "غير رسمي" على مصير ماكاو السياسي، وتحقيق الديموقراطية فيها، فداهمت الشرطة مراكز الاقتراع ومنعت الناشطين من انجاز العملية.
«رأى بعض موظفي الكازينو المحليين أنهم تحملوا وطأة التضخم، يريد بعضهم الحصول على زيادة في الراتب والحصول على بدلات، فضلاً عن فرص الترقية في العمل، لذا نظّموا هذه الاحتجاجات آملين أن تؤول بهم إلى تحقيق هذه المطالب. من الطبيعي أن تدفع هذه الاحتجاجات الحكومة إلى المزيد من الاهتمام بأوضاع هؤلاء، ولكن طالما أن التضخم ينحسر في ماكاو، فليس من المرجّح أن تستمرّ هذه التظاهرات»، يوضح البروفسور سيو لام لـ«الأخبار».
إذاً، فإن الحياة السياسية في ماكاو مرتبطة بوضعها الاقتصادي والسياحي بالدرجة الأولى، وتمثل "الديموقراطية" قضية ثانوية بالنسبة إلى قاطنيها، فاستقرارها السياسي والاقتصادي لا ينفصلان، وطالما بقيت السياحة مزدهرة والكازينوهات عامرة فلا إشكالية سياسية حقيقية في هذه الجزيرة الصغيرة.