بيت لحم | بدءاً من الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) حتى 15 منه، تحتضن «جمعية الثقافة العربية» في حيفا معرض «منام» ضمن «بينالي قلنديا الدولي الثاني» بمشاركة ٣١ فناناً من مختلف المناطق الفلسطينية والوسائط التعبيرية. المعرض الذي يجمع التجهيز، والفيديو آرت، والفنون الأدائية واللوحات، تولت رلى خوري مهمة تنسيقه.تتنوع التجارب التي يقدمها المعرض لأجيال مختلفة من الفنانين الفلسطينيين. منهم من رحل وترك إرثاً زاخراً ومهماً لتاريخ الفن الفلسطيني كمصطفى الحلاج، ومنهم من بدأ مشروعه بتميز، لكن الموت كان له بالمرصاد كالراحلين الشابين حسن حوراني وليان شوابكة.

في رحلة البحث بين المشاركين، يقدم عامر الشوملي (١٩٨١ ـ مواليد الكويت) المقيم في رام الله مشروعين، أحدهما تجهيز والآخر رسم. في المشروعين، يتحدث عن زمنين شكلا معضلة في تاريخ القضية الفلسطينية. خلف كل عمل، هناك صورة تحمل العديد من الدلالات والرموز تشكل تأريخاً مفصلياً في قيمة التحولات بشكلٍ مختلف ومخيب للآمال. يقول الشوملي: «رغبةٌ ما غامضةٌ شدَّتني إلى العمل على تلك الصور انطلاقاً من الآن وهنا. لكنني كلما كنت أواجه تلك الصور، يتملكني شعورٌ غامضٌ ورغبةٌ في إعادة صياغة تلك اللحظة التي تقبض عليها كل صورة. ربما تدخلاتي «التخريبية» تلك هي كل ما أردت قوله في هذا العمل».
يستعمل الشوملي في عمله الكوفية الفلسطينية، ويقوم «بتنسيلها» راسماً صورتين لياسر عرفات. الأولى تعبر عن روح المقاومة التي كانت في أواخر الستينيات. آنذاك وفي عام ١٩٦٨، وضعت مجلة الـ«تايمز» صورة عرفات على غلافها كشخصية مؤثرة، حين كانت «منظمة التحرير» والفدائيون في كل مكان، في بيروت وعمان وأبعد دول العالم. وبعد حصار عرفات في رام الله، استخدمت الـ»تايمز» عام 2003 أيضاً صورته على الغلاف، ولكن بشكل يوحي بالهزيمة والهشاشة، وقد علقت بأنّهم «حوصروا في العلبة».
من خلال عملين بالكوفية «المنسولة»، يجري الشوملي هذه المقارنة، مظهراً انتقال المشروع الوطني من مرحلة النضال إلى مرحلة الحصار والتلاشي.
في المعرض نفسه، يقدّم الشوملي ثلاثة أعمال مرسومة بالأكريليك تحكي عن خروج المنظمة من بيروت عام ١٩٨٢ إلى تونس. حين سألوا عرفات أين أنت ذاهب، أجابهم إلى فلسطين، بينما اتجه إلى تونس، وهم ما زالوا ينتظرون عودته ليحملهم معه إلى فلسطين.
تحمل أعمال الشوملي المرسومة كتلة من الزمن، توحي بشخوصه الذين يكبرون على اللوحة، بينما لا يزالون ينتظرون حاملين بين أياديهم صورة عرفات البيضاء، التي اختفت ولم تعد توحي بأفق يشعرهم بالأمل. يحف شخوصه سواد يلغي وجودهم شيئاً فشيئاً، بينما في الجهة اليسرى من العمل نرى امرأةً تُرضع طفلها في مكان عام، ويلفها الفضاء كأنها ولادة من جديد لجيل سينهض من دون التباكي على التاريخ. جيلٌ جديد سيحمل عزمه بيده وينهض.
أما عمل أمجد غنام (١٩٨١ ـ مواليد القدس) المقيم في رام الله «أحلام الأسرى» فينقل صوت الأسرى وحلمهم داخل الزنازين. في ذاكرة الفنان الذي أمضى سنوات في المعتقل، مصطلحات وعبارات ما زالت محفورة في ذاكرته كـ»أحمض الفيلم». يقول: «بعد زيارة الأهل للمعتقل، يعود الأخير إلى سريره ويغمض عينيه ليحمّض الفيلم البصري في خياله، ويعيده كصور بصرية يعيش على وقعها، أو فيلم ممنتج ذهنياً وخيالياً، وهذه اللحظات هي مقدسة للمعتقل الذي يتنفس الصعداء ولو قليلاً».
أثناء وجود الفنان في السجن، طلب من المعتقلين أن يكتبوا بعض أحلامهم لينقلها إلى أعماله الفنية، هم الذين لا يزالون يقبعون في المعتقل منذ عشرات السنين. وقد اختار الفنان غرفة ليكتب عليها أحلام الأسرى. وفي رسالة نصية نقلها غنام من السجن للمعتقل وليد دقة، القابع في سجن جلبوع المركزي منذ 1986، يذكر فيها: «منذ ربع قرن، لم أشاهد الفصول الوسطية وأخشى أن أبقى أسير إجابات الأسود والأبيض المطلقة».يستعمل غنام أعماله (أكريليك وحبر على كانسون) ويركبها على جدار ويحفر رسائل المعتقلين التي نقلها معها، ويكرر طباعتها على الكانسون، لتختلط الحروف والكلمات ويتحول الحلم إلى سواد، في إشارة إلى حجم الألم، ويغلق أعماله في إطار زجاجي لانتهاء الحلم داخل اللوحة، في حين يبقى العمل الرابع أي الأخير مفتوحاً، وعليه القليل من الكتابة ليكمل الجمهور أحلام أولاده وأصدقائه، ضمن باب مفتوح للعمل التفاعلي مع الجمهور.
الفنانون المشاركون تجاوزوا في المعرض واقعهم إلى الحلم. شكلوا وعيهم الخاص وعالمهم الذاتي من خلال لحظات رسموها هرباً من قلق الواقع. وفي بحث العلاقة بين الخيال والواقع، نجد أهمية التنفس «المُهرَّب» من أزمة الرقابة والاحتلال، وتشكيل وعي خاص وديناميكي تحت ظروف السياسة والاعتقال والحواجز، وهو أسلوب مارسه المعتقلون السياسيون للهروب من حصار الوقت، ومارسته العائلات والأفراد الذين ينتظرون عودة الأبناء إلى الوطن.